1984

المجد للكتب التي تحدث ضجة داخل عقلك.. المجد للكتب التي تحفز اليقظة الذهنية فيك.. المجد للكتاب الذي يصفعك ويجعلك تعيد النظر في أشياء كثيرة.. هذا الكتاب من الكتب النادرة التي توازي شهرتها وضجتها قيمتها الفكرية والروائية..

يقدم جورج سياسات القمع والديكتاتورية بقالب درامي رمزي رفيع جدًا، حتى وإن قلت لوهلة هذا مبالغ به جدًا ! دقيقتين من التفكير وستجد أن الاستراتيجية حدثت من قبل أو تحدث الآن لكن يختلف تلقينا لها واهتمامنا لها.. إنه لعمل عظيم أن تدرس الحاضر والماضي وتعير أدنى التفاصيل انتباهك، ثم بعد ذلك تستشرف المستقبل.. مرعب والله مرعب كمية الوقائع حاليًا التي تشبه تنبؤات جورج، تغير القوى، تغيير العدو في يوم وليلة الخ.. لدى حكومات القمع طرق سحرية حتى تقنعك بما يرفضه عقلك ابتداء، عليك أن تقتنع بـ :

الحرب هي السلام

الحرية هي العبودية

الجهل هو القوة

2+2=5

وفي بعض المرات ممكن يساوي ثلاثة أو أربعة.. 2+2 يساوي العدد الذي تخبرك به حكومة القمع.. التاريخ يتغير حسب ما تريده الحكومات، حسب ما تريدك أن تصدقه.. إنها حكومات تعمل على تسطيح عقولنا والهاءنا في ما لاينفع حتى تستمر هذه الحكومات بالتلاعب بالعالم .. وبنظرة سريعة للعالم وما يجري الآن تدرك أن معظم الحكومات هي حكومات قمع داخليا وخارجيا، هناك فقط مستويات مختلفة، وطرق مختلفة لتحقيق هذا القمع .. فقدت الثقة بمعظم ما كُتب في التاريخ، فكلّا يكتب مايريده .. كلّا يكذب بما يتلائم مع مصلحته .. من الممكن جدا أن تقنع شعبك أن أسلافهم كانوا يعبدون القدور والأصنام، لكن تم انقاذك من هذا الوحل .. بينما الواقع يكون شيئا آخر !! اقرأ التاريخ من ألف مصدر إن استطعت .. وفوق كل هذا فالتحريف والسهو وارد جدًا ..

الإستبداد يفقدك متع الحياة كلها، لن تعيش كما ينبغي أن تعيش.. ستكون كما الآلة تتزوج وتنجب من أجل الواجب والحزب.. تأكل من أجل الحزب.. شاشة الرصد تحيطك يمنة ويسرة.. لا تكتب ولا تقرأ كما تريد..

لوحات بصورة الأخ الكبير تواجهك في كل مكان حتى تنغرس في عقلك بأنه لامحالة من أن تعيش.. الأسهل أن تخضع ، أن تتأقلم وتعيش بالكفاف..

“الأخ الكبير يراقبك”.. التبجيل في أعظم صوره.. نشر صور القادة بطريقة مبالغ بها وكبيرة، وعبارات مدح وتبجيل لا يمكنها إلا أن تفسد كل ما في عقلك للأسف إن لم ننتبه لهذا.. كل هذه الإستراتيجيات لعبة سياسية قذرة .. لعبة نفسية مدروسة .. ثلاث قوى استبدادية تتصارع حول بقية العالم، من يظفر بمن؟ وكيف بإمكانك إخضاع شعب لأي فكرة تأتي بها ؟ كيف يمكنك تطوير أسلحة ذهنية لدمار شامل للعقل .. كيف يمكنك تدليس الحقيقة، وجعل كل شيء صحيحا أو خاطئا كيفما تريد ومتى تريد .. كيف يمكنك زرع الكره تجاه ماضي أو حاضر أو مستقبل .. كيف يكون بإمكان القوى القوية أن تتنازع حول أراضي وقوة ليست من حقها، إنه استبداد الانسان على الإنسان، استبداد الإنسان على نفسه..

 

– أوبراين: “كيف يؤكد الانسان سلطته على انسان آخر يا ونستون؟”

– ونستون: “بجعله يقاسي الألم”.

– اوبراين: ” “أصبت فيما تقول، بتعريضه للألم، فالطاعة وحدها ليست كافية، وما لم يعاني الانسان من الألم كيف يمكنك أن تتحقق من أنه ينصاع لإرادتك لا لإرادته هو؟ إن السلطة هي إذلاله وإنزال الألم به، وهي أيضاً تمزيق العقول البشرية إلى أشلاء ثم جمعها وصياغتها في قوالب جديدة من اختيارنا، هل تفهم أي نوع من العالم نقوم بخلقه الآن؟ إنه النقيض التام ليوتوبيا المدينة الفاضلة التي تصورها المصلحون الأقدمون، إنه عالم الخوف والغدر والتعذيب، عالم يدوس الناس فيه بعضهم بعضاً، عالم يزداد قسوة كلما ازداد نقاء، إذ التقدم في عالمنا هو التقدم باتجاه مزيد من الألم، لقد زعمت الحضارات الغابرة بأنها قامت على الحب والعدالة أما حضارتنا فهي قائمة على الكراهية، ففي عالمنا لا مكان لعواطف غير الخوف والغضب والانتشاء بالنصر وإذلال الذات، وأي شيء خلاف ذلك سندمره تدميراً، إننا بالفعل نعمل على تفكيك العادات الفكرية التي ورثناها من العهد السابق للثورة، لقد فصمنا عرى العلاقة بين الطفل و والديه، وبين الصديق وصديقه، وبين الزوج وزوجته، ولم يعد أحد قادراً على الثقة بزوجته أو بطفله أو بصديقه، وفي المستقبل لن يكون هناك زوجات أو أصدقاء، كما سينعدم كل ولاء ليس للحزب، وسيباد كل حب ليس للأخ الكبير، ولن يكون هناك ضحك غير الضحك الذي يصاحب نشوة الانتصار على العدو المقهور، ولن يكون هنالك أدب أو فن أو علم، فحينما تجتمع في أيدينا كل أسباب القوة لن تكون بنا حاجة إلى العلم، كما ستزول الفروق بين الجمال والقبح، ولن يكون هناك حب للاستطلاع أو التمتع بالحياة ولن يكون هناك ميل نحو مباهج الحياة التي ستدمر تدميراً…”

كيف يمكنك أن تشغل العامة بالرذيلة باختلاف أشكالها، بالفوضى الصغيرة حتى لا يعودو قادرين على معرفة الفوضى الكبيرة.. كيف تأكل أنت جيدًا وشعبك لا يعرف طعم الأشياء الحقيقي.. عليه فقط أن يصدق كل ماتقول.. حياتك كنفس غير مهمة لسلطات القمع، حياتك فكريا وانسانيا هي ما يقلقهم، هي ما يجعلهم يصلون إليك ويخفونك من الوجود الواعي، يتنزعون منك إنسانيتك.. يسخرون كل القوى والتقنيات والاستراتيجيات من أجل ذلك الهدف، من أجل أن ينجحوا في الأخير لتقول: لا بأس فقد انتهى النضال، وها قد انتصرت على نفسي وصرت أحب الأخ الكبير.

لا يكفي حكومات القمع والاستبداد أن تكفر بما يكفرون به، بل يجب أن تؤمن بالأخ الكبير ، طاعة عمياء وتصديق لكل مايقوله عن ظهر قلب .. بدو شك .. بدون تفكير .. آمن من قلبك به وبكل مايقوله .. مؤلمة الرواية لأن نهايتها مؤلمة ومؤسف أنها تحدث حاليا، ونرى ما يشبه أحداثها ، مؤلمة لكن الحرب ماتزال قائة الى يوم الدين مع كل مايعطل العقل البشري ويقيد حريته ، قائمة حتى يأتي جيل يرفض هذا العنت السياسي وتزدهر الانسانية .. فتلك الأيام نداولها بين الناس.. شخصيًا أرى أن الرواية لا تقتصر فقط على السياسة، فهي بلا شك يمكن إسقاطها على أبسط الأمور مع تجاوز العديد من الدراما فيها.. الناحية الأدبية كانت جميلة ومقبولة في الرواية على الرغم من قلة معرفتي بالنقد الأدبي، لكن أرى أن الرواية مباشرة أكثر من اللازم.. ربما كان لجورج مغزى من ذلك فهو كان ينشر لبشر وعيهم يختلف عن وعينا، ومستوى تلقيهم يختلف؟

أرجو أن لاتفهم من تقييمي بخمسة نجوم بأن الراوية لا يوجد بها ضعف أو ملاحظات، ولكني في مثل هذه الكتب أقيم بشكل عام مع ذكر الملاحظات، وعلى الرغم من أن الرواية كمفهوم ليست جديدة كليا إلا أنها كتب في وقت قديم وهذا ما يضفي عليها الكثير من الجمال الفكري، كمقدمة ابن خلدون.. فمن العدل في نظري أن تقيم حسب وقت نشرها، فهي كانت من القواعد لكثير من أعمال نشرت وصورت بعدها..

هل تستحق القراءة؟ نعم تستحق من وجهة نظري.. حتى ولو سبقت لك القراءة في حكومات القمع وغيرها فمن الجيد معرفة أحد الأساسات لمثل هذه الكتابات.. أيضا أجد أنها تساعد كثيرًا لفهم وتحليل الواقع والمستقبل.. فمنذ أن قرأتها لم أتوقف عن الحديث عنها لزوجي ، وفي كل موقف أضرب له مثلا بما جاء في الرواية حتى رغب بشدة في قراءتها.. رواية بامتياز تستحق أن تقتنيها و تكون في رفوف مكتبتك بشكل دائم..

إضافة: قبل أيام قليلة شاهدت تقرير نشره على اليوتوب رحالة زار كوريا الشمالية، وصعقت من كثير من الإستراتيجات التي جاءت في الكتاب و المطبقة حرفيًا في كوريا الشمالية ! كنت أظنها مجرد مبالغات درامية لكنها حقيقة معمول بها في أنظمة كهذه. 


1984 ، جورج أورويل