وفاءً لدرويش في ذكراه

 سليم بركات: محمود درويش وأناتثير المقالة مجموعةً من الأسئلة منها: هل ما زال البعض يربط بين إنتاج الأديب وحياته الشخصية؟ هل تخطّينا الرواسب الشوفينيّة في عيشنا المشترك؟ هل المبدع أسطورةً حقّاً أو مقدّساً؟  لعلّ الجامع للأسئلة السابقة وللمقالة الحدث هو السؤال عن ذهنيّة المتلقي ودورها في ثنائيّة الأسطرة والاختزال.
في المستوى الأول فالنقد الأدبي والفنّي تجاوز هذا السؤال بدءاً من النقد الجديد إلى الشكلاني وصولاً للتفكيكيّة ونقد ما بعد الحداثة حينما أعلن دريدا موت المؤلّف، لنجابه النّص بكل مستوياته وبكل عدّتنا الثقافية. أمّا أن يكون البعض ما زال خلف السؤال الآنف فإنّه يحيلنا ليس على إنتاج المبدع بل إلى ذهنيته.  وهذا يلتقي مع السؤال الآخر حينما يُوصف سليم بركات (بالكرديّ) في محاولة بائسة للنيل منه، ليس أقل ما نقول أنّنا بالمجمل ما زلنا في مستنقع الهويات القاتلة والظلاميّة الفكرية والشوفينية. وهذا أيضاً يحيلنا إلى كيفيّة النظر للإنسان، مبدعاً أم عادياً. ولعلّ الوفاء لذكرى درويش، هو إنصاف العقل والإبداع عبر نقد هذه الذهنية.
اختزال الأديب في القضية حيث لا حياة شخصيةفي الوعي المتأخر القائم على ثنائيّات (الأصالة والمعاصرة) (الخير والشر) والتي تقوم على ثقافة شفاهيّة قائمة على الأسطرة والاختزال، من جهة تختزل الموصوف بصفةٍ ما، فلا تعترف بكينونته وهويّته، ولنا أن نتذكّر ردود الأفعال (لا سيّما “المثقفون”) على نشر غادة السّمّان لرسائلها وغسان كنفاني، وكنفاني اختُزل لأديب ثائر همّه الأول والأخير قضيته الفلسطينيّة، لتطغى الصفة على الموصوف فلا يُرى للموصوف من وجودٍ إلا من خلالها. و كذلك درويش،فحياته الخاصة إحدى صفاته، إحدى اختلافات هويته، ولاتؤثر على قراءاتنا لشعره.
لم يعترفوا حينها أنّ الإنسان أكبر من جميع صفاته. هذا انوجاده وهذه هويته في وحدته واختلافاته وتناقضاته، عبر علاقاته وروابطه مع ذاته ومع الآخر. إذن حسب هذه الثنائية في هذه الذهنية لا يحقّ لغسّان أن يعشق، ولا يحق لدرويش أن يكون له حياته الخاصة بعيداً عن عالم الفن والشعر. وهذا ليس فقط في الأدب، ألم نختزل العشائر والأحزاب بأسماء زعمائها؟ ألم يُختزل الإنسان بلقبه عبر تاريخنا “المجيد”؟…..
شعوب مقهورة وأبطال منتظَرونبالمحصلة الاختزال كالمانوية والحلولية يلغي الاعتراف بالآخر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يفتح أبواب الأسطرة، فحينما تكبر الصفة على الموصوف، يصبح جبّاراً لا يُقهر، يعود بنا إلى الأبطال في المخيال الشعبي وحكاياته حيث يقول “مصطفى حجازي” في كتابه التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور:هو مجرد إسقاط لأمل الإنسان المقهور في الخلاص، لرغبته الدفينة في امتلاك القدرة على المجابهةتمتد للماضي فتؤسطره، وتقدّسه، ولنا في ردود الفعل على المبدع ممدوح عدوان حينما قدّم شخصية الزير سالم أنّه قد يضعف في لحظة ما .. كيف؟ وهو في نظر هذه الذهنية الفارس الذي يقتل سبعين فارساً بضربةٍ واحدة. وكأنّها تحيلنا على تاريخنا كيف كُتب وتحت أي سلطة ناقشت أحداث التاريخ؟!
ذهنية تختزل الطرف الآخر أيضًاأمّا الجانب الآخر للسؤال حول هذه الذهنية فإنّها تختزل ما يخالفها بالرأي أيضاً بصفة واحدة سلبية؛ فالإنسان لديها إمّا خيّر، أصيل، طالما يلامس نفاقها الاخلاقي والفكري، أو أنّه شريرٌ، وقد يكون (كافراً)، فيصبح سليم بركات المبدع باعتراف درويش أولا ومن ثم العالم أجمع، فقط محصوراً بصفة واحدة، تحمل إثم انقسامات المنطقة بل المستنقع الذي تتحاجز فيه الإثنيّات والقوميات والطوائف والمذاهب والعشائر والأحزاب.. الخ، غير معترفة بحق الآخر، بثقافته، بإنسانيته، بحقوقه.
درويش وبركات يشتركان في الهمّ، من جهة قضية شعبيهما، في الثقافة المنفتحة الإنسانية، في الإبداع، ومساهماتهما في الفن والشعر، ما
زالت تغني أجيالاً، ليكون الإبداع عنواناً مشتركاً  لقرّائهما، بغض النظر عن خلفيتهما القومية أو العرقية أو الدينية أو حتى السياسية، ولسنا أقرب لأحدهما منهما وهما اللذان جمعتهما الاستعارة، كما تجمع المعنى وتطلقه.
نقول ما زلنا في مرحلة الخصاء، ليس ذهنياً وحسب، بل سياسياً وفكرياً، وليس من مبرر أن يكون الانتكاس والتشاؤم والإحباط واللامعنى،
أسباباً لعدم تحقق الهوية والانتماء، وبالتالي البحث عن (رموز) جديدة، أو تلميع أصنام صنعناها لنعبدها.
البداية: الاعتراف بالآخرمن هنا يأتي الإنصاف للعقل وللمبدع، بأن ننتقد هذه الذهنية وتلك الثنائيّات القائمة عليها بأن نبدأ بالتأسيس لفكر منفتح، يعترف بالحقيقة الموضوعية، يعترف بالآخر وبإمكانية خطأ الذات. ولنقل أننا في مخاض لكسر رواسب التأخر والتخلف والفكر الظلامي الذي ما زال يشدّنا للماضي، كما يقوقعنا في مستنقعٍ لن تكون نهاياتنا فيه سوى الاندثار، كحضارة، كهويّات، كقوميّات.
الوفاء لدرويش وللمبدع عامةً، هو العمل على إنتاجه، لننتج نصّاً آخر، نحيي هويّته وكينونته وكما قال محمود درويش يوماً: ” واجهوا
النص بالنص”، ونفكك ثقافياً ما سعى المبدع إليه بتملّك المستقبل ثقافيّاً وفنيّاً. ولعلّ الشكر لبركات أنّه كشف عن (عوراتنا) وخصائنا الذهني، كي نتمكّن من نقد هذه الذهنيّة وتفكيك استلاباتها، علّها تتخلّص من مخاض طويل من أسباب اغتراباتها.