من الملاحظ جداً أن كل شخص عائد من السفر يظل لأيام يحكي عن تفاصيل رحلته:
ماذا رأى؟ ماذا حدث؟ من قابل؟ وكيف تم؟ وعشرات التفاصيل التى يحلو له الحديث عنها لفترة قد تختلف من حيث الطول حسب طبيعة الشخص نفسه.
وأي طفل صغير ذهب في رحلة مع مدرسته لن يكف لفترة عن حكي ما حدث معه .
وسيعود على فترات زمنية متباعدة لتذكر تفصيلة صغيرة ما ليحكي عنها بعد ذلك باستفاضة.
تعد فكرة الانتقال من مكان إلى آخر من أكثر الأفكار الثرية في الأدب.
هنا لا نتحدث عن أدب الرحلة بالمعنى الحرفي، والذي يمكن تلخيصه بشكل بسيط في أن العمل الأدبي يكون قائم في الأساس حول الرحلة ذاتها ورصد كل ما حدث فيها، وقد نشط في الأساس على أيدي المستكشفين والجغرافيين.
فكرة أدب الرحلة و وجود الرحلة في الأعمال الأدبية
أحياناً كثيرة تستخدم فكرة الانتقال أو الرحلة داخل العمل الأدبي كوسيلة للوصول إلى الهدف، ولا تكون الرحلة نفسها هى محور الحدث.
فمثلاً نجد رحلة قامت بغرض البحث عن كنز فى جزيرة (جزيرة الكنز) للكاتب الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون، أيضاً نجد رحلة قامت في رواية أخرى بغرض الوصول إلى مكان جديد وتحقيق كشف علمي مثل (رحلة الى مركز الأرض) للكاتب الفرنسي جول فيرن.
وفي أعمال اخرى تحولت فيما بعد إلى أفلام سينمائية ناجحة نجد رحلة قامت من أجل تحقيق رقم قياسي مثل (سبع سنوات في التبت) للكاتب هانيرش هار المجري الأصل .
في الواقع الأمثلة كثيرة على هذا النمط من الأعمال التي تتخذ دائماً سمة واحدة وهى مجموعة من الأشخاص يتوحد هدفهم وتختلف دوافعهم.
يجدون أنفسهم فجأة وسط كم من التحديات والمخاطر، فيواجهون داخل حيز مكاني واحد (وفي الغالب ضيق) الموت والمرض فتتلاشى على مدى الأحداث خلافاتهم وأحقادهم ويغلبهم الضعف الأنساني تجاه الحياة نفسها.
هذا الأمر يختلف تماماً أيضاً عن فكرة الرحلة بغرض اكتشاف الذات.
لا أتحدث أيضاً عن (ساحر الصحراء) لـ (باولو كويلهو) أو الكثير من أعماله التى تناقش فكرة البحث عن الذات، حيث بطل الرواية غالباً يدرك من هو جيداً، ولكنه لا يعلم أبداً ماذا يريد أو ما هو هدفه في الحياة، فيخوض رحلة مكانية أو زمانية يكتشف من خلالها ذاته ومن حوله .
البحث عن الذات في أدب (موديانو)
النمط الأدبي الأخر الذي تتخلله فكرة الرحلة هو الرحلة التي تقوم بغرض البحث عن الهوية.
وهنا نتحدث بالتحديد عن (باتريك موديانو) روائي نوبل عام 2014.
فكرة البحث عن الهوية كانت دائماً هى المسيطرة على أدب موديانو، دائماً البطل يبحث عن جذوره، يبحث عن هويته، أو يبحث عن شخص مفقود.
فكرة البحث دائماً تسيطر على أعماله.
كما أن له أسلوب بسيط وسهل ومشوق يجعل عدم تعاطفك مع البطل مهما بلغت ذنوبه مستحيلاً.
فكيف ممكن أن لا تتعاطف مع شخص لا يعرف أصلاً من هو؟ من يكون ومن أين جاء؟ فنجد في روايته (شارع الحوانيت المعتمة) البطل فاقد الذاكرة يستعين باشخاص آخرين للوصول إلى هويته. فيخوض رحلة طويلة عبر مجموعة من المدن والعواصم ليعرف فقط من هو، وخلالها يصطدم بالعديد من المواقف ويتعرض للكثير من الحوادث بهدف أن يعلم هويته.
كيف يكون شعور شخص لا يعرف حتى أسمه ولا يمتلك أوراق تثبت هويته، شخص بلا حقوق.
هذه الأيام نعاني من حالة مستعصية من انعدام الهوية ولكن للأسف بدون أن نصاب بفقدان الذاكرة، فنجد من يتنكر لهويته و وطنه ولغته.
يعيش أغلبنا فى شارع طويل من الحوانيت المظلمة التى صنعناها بأنفسنا لأنفسنا.