«مكتبة شكسبير وشركاه»

نكهة كلاسيكيةللمكتبة مدخلان منفصلان، أحدهما يؤدّي إلى القسم المخصص للكتب القديمة، بنسخ نادرة، مثل رواية "العجوز والبحر" لارنست همنغواي بنسخة مصوّرة تعود لعام 1953، أو رواية "الأبله " لدوستويفسكي بطبعتها الأولى. وتحتوي على عدد كبير من المجموعات النادرة من الأدب الأمريكي والبريطاني.
والباب الآخر للعموم، وهو الذي يبدو بمثابة المدخل الرئيسي للسائحين والباحثين عن كتاب. ويربط بين طابقي المكتبة، سلّم خشبي داخلي، يسمح لشخص واحد باستخدامه، مع الحذر والتنبّه.
ليس في الطابقين، أي شبر أو ممر أو زاوية ميتة أو فسحة صغيرة في الأرض، لا تحتوي على كتب تزخر فيها الرفوف أيضًا. والتي "انحنت" من ثقل ما حملته منه. ولكنها لا تزال "صامدة". وأوّل ما يواجهه الزائر، رائحة الكتب القديمة الممزوجة برائحة الخشب العتيق. إن التوصيف الذي قدّمه جورج وايتمان لمداخل وحجيرات الطابقين، هي أن "كل منها مثل فصل في رواية".أجواء فريدةتخلق هذه الأمور كلّها، نوعًا من سحر المكان والإحساس بالانتماء إلى عالم الكتاب. هذا ما يمكن أن يقرأه من ينظر في وجوه الزائرين "المأخوذين" بهيبة الأجواء المحيطة المثقلة بعبق التاريخ. والمثير للانتباه أن الذين يوجدون في المكتبة، يحافظون على درجة عالية من الصمت، الذي يليق بمكتبة للقراءة وليس بمخزن للبيع.
وما عدا الكتب، تحتوي مكتبة "مكتبة شكسبير وشركاه" على ما يمكن أن يثير الدهشة للوهلة الأولى: كراسي حديدية قديمة، آلة كاتبة تعود لأربعينيات القرن الماضي، آلة بيانو، بعض المقاعد، عدد من الأسرّة القديمة الصغيرة التي يجد بعضها مكانًا بين الرفوف بعد طيّه. لكن الدهشة لا تطول، فهذه الأشياء كلّها، المحاطة بالكتب، تتماشى مع تصوّر دور المكتبة الأصلي.إقامة ثقافيةأراد مؤسس المكتبة جورج وايتمان، لها، أن تكون لبيع الكتب. ولكن أيضًا، مكتبة عامّة لمن يريد أن يقرأ، وبالتالي من هو بحاجة إلى الجلوس طويلاً، الذي ربما يحتاج لاستخدام الآلة الكاتبة. أمّا من لديه موهبة موسيقية فيستطيع أن يعزف كما يشاء على البيانو ويستمع له من أراد ويتجاهله أيضاً من يشاء.
لكن، لماذا الأسرّة والمقاعد؟
المسألة تستحق التوقف عندها. فهذه المكتبة، أراد مؤسسها أن يخدم الطابق الأول بأسرّته، كمكان يقيم فيه بعض المهتمين بالأدب والدارسين له، عدة أيام أو عدّة أسابيع وربما أشهر، مقابل عملهم لساعات في المكتبة أو للقيام ببعض المهمات المتعلقة بنشاطاتها.نصف قرن من الحياة الأدبيةعرفت مكتبة "مكتبة شكسبير وشركاه"، ازدهارًا كبيرًا في انطلاقتها الجديدة، بعد أن أغلقت أبوابها لفترة من الزمن. وأصبحت إحدى المكتبات الباريسية الشهيرة العديدة، التي لكل منها تاريخها وتخصصها وماضيها وحاضرها.
وعلى خلاف جميع المكتبات الحديثة، التي تعرض الكتاب كسلعة، يجد من يتخطّى باب مكتبة "مكتبة شكسبير وشركاه" إلى داخلها، نفسه في "حضرة" كتّاب كبار، مرّوا في المكان أو أقاموا فيه فترة من الزمن. ثمّ إن مجرّد ولوج مبنى المكتبة المتواضع، يغرق الإنسان، من خلال الكتب القديمة والرفوف العتيقة، في عمق الماضي العريق، وفي حنايا الثقافة الكونية.
ولعلّ ما يفسر جزئيًا ازدهار وشهرة مكتبة "مكتبة شكسبير وشركاه"، هو أنه منذ نهاية سنوات الخمسينيات في القرن الماضي، كانت باريس هي إحدى الوجهات المفضّلة للكتّاب الأمريكيين الذين كانوا يقيمون عامّة في منطقة الحي اللاتيني القريبة، قريبًا من المكتبة التي غدت بسرعة، لمجرّد أنها مكتبة "أمريكية"، تهتم بالثقافة في باريس، مكانًا للقاء الأمريكيين القريبين من عالم الثقافة. ثمّ أصبحت بعد ذلك، مكانًا للإقامة المؤقتة لبعضهم، خلال عدّة أيام وربما عدّة أسابيع.
كانت مكتبة "مكتبة شكسبير وشركاه"، مخزن بقالية لبيع السلع والمنتجات العربية، قبل أن يحوّلها جورج وايتمان، إلى متحف حي للثقافة. واستلمت ابنته سيلفيا، إدارتها لاحقًا.البداياتفي نهاية عام 1919 افتتحت سيلفيا بيتش مكتبتها في شارع دوبوترن، بعدها بثلاث سنوات انتقلت إلى شارع دي أوديون. لم تكن تلك المكتبة مجرد متجر لبيع الكتب الإنجليزية بل كانت دار نشر أيضًا جريئة ومغامرة وهو ما أكّده قيامها بنشر رائعة جيمس جويس "يوليسيس" التي رفضت دور نشر عديدة نشرها.
غير أن الأهم من ذلك أن تلك المكتبة سرعان ما صارت مكانًا يجتمع فيه كبار الأدباء والفنانين، مَن يقيم منهم في باريس ومَن يأتيها زائرًا. حتى أن الكاتب الأيرلندي جويس الذي حُظر توزيع روايته التي طبعتها الدار في الولايات المتحدة وبريطانيا اتخذ من المكتبة مكتبًا له.
ويُقال إنه كتب روايته الشهيرة "يقظة فنغان" هناك. وهي الرواية التي يُقال إن عثور أحد ضباط الاحتلال الألماني على نسخة منها في مكتبة شكسبير وشركاه كان سببًا في إغلاق المكتبة عام 1941.نبوءة همنغواي لم تكتملحين تم تحرير باريس من الاحتلال النازي اعتبر أرنست همنغواي، الروائي الحائز على نوبل الحدث تحريرًا لذلك المعبد الأدبي، غير أن المكتبة لم تفتح أبوابها إلا عام 1951 من قبل مؤسسها الثاني جورج ويتمان، الأمريكي هو الآخر وفي عنوانها الحالي. في موقعها الحالي بباريس عام 1951. ومن ثم أخذت في عام 1962، تسميتها الحالية: "مكتبة شكسبير وشركاه".
في البدء كان المتجر الجديد يحمل عنوان "لو ميسترال" غير أنه سمّي عام 1964 بـ"شكسبير وشركاه" عام 1964 تكريمًا لأثر سيلفيا بيتش واحتفاء بالذكرى 400 لميلاد المسرحي الإنجليزي.
"اليوتوبيا الاشتراكية التي تتنكر كمكتبة" العبارة التي كان يرددها جورج ويتمان في وصف متجره الذي وصفه الكاتب الأمريكي هنري ميلر الذي عاش في باريس فقيرًا ردحًا من الزمن بـ"عجائب من الكتب".
لقد تحوّل ذلك المتجر إلى مكان يتجمع فيه ممثلو التيارات الأدبية الطالعة في باريس البوهيمية. كل أفراد "جماعة بيت الأمريكية" كانوا هناك. ألين غينسبيرغ وغريغوري كورسو ووليام س. بوروز وكان يرتادها بين حين وآخر جيمس بولدين وأنييس نين وخوليو كورتازار ولورنس داريل وريتشارد رايت وماكس أرنست وبرتولت بريخت ووليام سوريان.