بدايةً يجب أن نقول أن كثيرًا منا كان يتصور أن هذا الكتاب سيقتل لديه المتعة عند القراءة بطريقة ما.. لأنه نظر إلى حجمه وكثرة الكلام وترسخت هذه الفكرة عند قراءة أول الصفحات.. لا نعلم لماذا لكن شعور يشبه خيبة التوقعات.. ولكن مع مرورك بالصفحات ستبدأ تعلم أن المشكلة كانت من عندك وأنك أنت لم تكن تفهم ما يعنيه غالبًا وما يمثله هذا الذي يكتبه.. قد نعتقد أن مقدمة ابن خلدون تحتوي أشياء خارقة أو مثل ذلك نظرًا لكثرة الحديث عنها وشهرتها ولكن ما أن تقرأها ستشعر بشعور: عادية !
لكن هذا بسبب أن من يفهمها بتلك الطريقة سيكون غالبًا غير ملم بعلم الإجتماع وغير ملم بالفترة التاريخية التي عاشها ابن خلدون ونموذج الأطروحات في عصره.. بعد ما تتعمق قليلًا في الكتاب ستشعر أن هذا الكتاب هو من يكسبك متعة ربما لم تجد لها مثيلًا منذ زمن طويل وأنت ممسك بكتاب “ضخم”.
ستبدأ في فهم زمنه.. و تحلل و تربط و تحاول التعرف على ابن خلدون من خلال مقدمته وأيضًا تتعرف على عصره من خلال ابن خلدون..
هذا الكتاب لا ننصحك بقراءته “وحيدا” .. نقصد لا تقرأه بدون النظر إلى كتب أخرى تتناول مقدمة ابن خلدون تحليلًا وفهمًا شموليًا.. أيضًا أن تتسنّى لك قراءة المقالات لتحليل بعض من أفكار ابن خلدون ستشعر بعظمة الكتاب – المقدمة – فعلا..
ما نريد أن نقوله هو ما أورده الدكتور علي الوردي في كتابه {منطق ابن خلدون}: “ولعل الكثيرين منهم شعروا بشيء من خيبة الأمل عند قراءتهم للمقدمة إذ هم بدأوا بقراءتها وهم يتوقعون أن يجدوا فيها مصداق ما سمعوا عنها من شهرة عريضة. وكأنهم كانوا يتوقعون أن يجدوا فيها أسلوبًا رائعًا كأسلوب الجاحظ أو أفكارا عالية أفضل من أفكار الفارابي وابن رشد، ولكنهم وجدوا بدلا من ذلك شرحًا مسهبا لأمور هي في نظرهم اعتيادية تافهة لاتستحق أن يشغل المفكر بها نفسه، فهي تبحث مثلا في عادات البدو والحضر وما أشبه وهذه أمور ليست بذات الأهمية في نظرهم إذ هي مما يشاهدونه كل يوم في مجتمعهم فليس فيها ماهو جديد أو غريب، قال لي أحدهم وهو حائر يتساءل: ماذا وجد الأوروبيين في المقدمة ليعجبوا بها هذا الإعجاب المفرط؟ أليس عندهم من الكتب ماهو أفضل منها ؟”
بالضبط هذا ما نود قوله، ابن خلدون كتب مقدمته في عصره بطريقة لم تكن معهودة.. أتى بأفكار ودراسة للمجتمع كانت فريدة من نوعها.. أو لنقل أنه ابتدأ أو أسس علم اجتماع.. سنقرأها الآن ونراها عادية لكنها في ذلك الوقت ليست عادية أبد وإلى وقت قريب.. وبما تكون المقدمة من الكتب التي لن تُمحى من ذاكرة تاريخ علماء الإجتماع لأنها الأساس الواضح جدًا أو الفتيل لعلم الإجتماع.. فمن هنا تبرز أهميتها، فلذلك على القارئ أن يعرف كيف يقرأ وكيف ينتقد وعلى ماذا يستند في انتقاده..
الوضع أشبه بالجيل الذي ولد وكبر وعاش في ظل وجود الكهرباء، فهو يراها عادية وأمر مسلم به.. لكن لن يشعر بقيمتها الا الذي عاشوا في الظلمة ثم استناروا يوما بمصباح كهربائي.. على سبيل القياس لا أكثر..
نريد أيضًا أن نضيف أنه ليس أي شخص مؤهل ليستفيد من هذا الكتاب.. قد يمسكه قارئ ما وينهيه بدون أي تأثير أو أي فائدة، وذلك قد يكون راجع لقلة الحصيلة المعلوماتية لديه.. أو لعدم تدربه على القراءة..
تحتوي المقدمة على ستين بابًا يتحدث فيها ابن خلدون بإسهاب متفاوت الطول عن الظواهر الإجتماعية ودراسته لها.. وهذه الدراسات تتعلق بالطبيعة البدوية والحضرية والعمران والسلطان والحكم والعلماء والفقهاء والترف وما إلى ذلك.. عندما تقرأ بعض الأفكار التي أتى بها ستشعر أنه عبقري فعلًا كيف أنه كرس أفكاره لملاحظة العالم من حوله ودعاه ذلك إلى تسجيل أفكاره واستنتاج نتائج أفادت البشرية من بعده دهرًا طويلًا..
يخرج ابن خلدون بأفكار ليست دارجة في زمانه.. ويرى ويدرك أن ما كان قد يصلح بالأمس ليس بالضرورة أن يصلح اليوم.. تتقدم فكرته هذه حينما يصرح في أكثر من موضع أن الوعظ والمواعظ لم تعد تؤثر في الناس- في زمنه – ولا يصلح المجتمع بتلك الطريقة.. هو يقول بشكل غير مباشر: يجب أن تدرس أصول المشاكل والمشكلة بذاتها، أن يدرس وضع المجتمع بمشاكله ومساوئه وسلبياته وعلى ذلك تُجرى الحلول.. وهي فكرة عبقرية في زمانها.. اذ كان الوعظ والدعوة للمثالية مباشرة من قعر الفساد هو الاسلوب السائد في ذلك الوقت- وربما الآن -.
الأسلوب يشعرك أنه سيكون صعب ويستعصي عليك فهمه لكن تكتشف أنك استطعت أن تلم به وتفهم رغم مرور بعض الجمل والكلمات التي لإختلاف الزمان أصبحت غير مفهومة تمامًا وبسهولة.. أيضا تشعر أن المقدمة غير مترابطة أو غير متناسقة إن صح التعبير..
لا نعرف كيف نشكر هذا الشخص الذي أتى بهذه الأفكار الجميلة.. على الرغم من أن معظمها أصبح عاديا في زمننا .. لكن هناك الكثير من السطور التي تأثر فينا مباشرة.. و تغير أفكار لدينا كانت متعصبة بدون علم وبدون تفكيرمثل فكرة ابن خلدون !!
عندما تقرأ عن حياة ابن خلدون أكثر لا تدري لم َ ستزداد قيمة المقدمة في نظرك.. ربما ظروف حياته وشخصيته التي ينتقدها الكثير ستجعلك ترى أشياء في المقدمة لم تكن لتراها.
نعرف كثيرًا أن الأوروبيين ذُهلوا بالمقدمة وهرعوا إلى ترجمتها وكتابة البحوث عنها و رسائل الدكتوراة تُقدم في جامعاتهم إلى الآن.. وهذا لأنه أحدث ثورة غير مسبوقة في علم الاجتماع، لكننا نحن لم نستفد منها كمسلميين في ذاك الزمان لأن الأفكار الجديدة وغير الإعتيادية مرفوضة عندنا دائما.. حتى بدون تحليلها.. الرفض أسهل الطرق لدينا ..
سيعجبك كثيرًا مزج ابن خلدون للآيات واستخدامها في علم الإجتماع وكأنه يضيف مسحة إيمانية روحانية، ويعلل ذلك الوردي بأنه يغلف نظرياته بغلاف الإيمان حتى يسلم من الإنتقاد او الإتهام بالزندقة.
و بطريقة ما ستطمأنك المقدمة أن الأفكار الجيدة لاتموت.. ومهما قوبلت بالرفض والمعارضة أو عدم الاهتمام ستجد لها مكانا وزمانا آخرين وتحدث فيهما ماتحدثه. وهذا ماحصل تماما مع أفكار ابن خلدون.. يجب أن تعلمنا المقدمة والتاريخ كيف نستفيد من الأفكار الجديدة والغير مسبوقة.. يجب أن نفهم كيف نتعامل مع الأشياء الخارجة عن إطارنا البيئي والا سيكون التاريخ بلا فائدة لنا..
نكرر .. لاتقرأ مقدمة ابن خلدون – مالم تكن متخصص في علم الإجتماع والتاريخ – إلا وأنت مؤهل بحصيلة قراءة وتحليلية جيدة + اقرأ ابن خلدون من أناس آخرين كتب ودراسات عن مقدمته – مقالات أو أي شيء آخر..