لماذا الخوف وإهدار الفرص
في حديث طويل مع الأستاذ* عن عظمة مصر وتركيبتها البشرية وعبقريتها المكانية، وحول شخصيتها، وهل الشخصية المصرية مستقلة جامدة ترفض تزاوج الحضارات والإندماج العالمي أم أنها تأخذ وتعطي وتؤثر وتتأثر بالعالم الذي يحيط بها وتتحاور معه؟
هل الجنس المصري جنسًا نقيًا ومصريًا خالصًا أم هو خليط متعدد الأعراق والأنساب؟
إن مصر قدرها أن تكون مشاعًا؛ سر عظمة مصر أنها خُلقت لتكون للعالم كله، ولذلك هي العشق المقدس لأهل الأرض جميعًا!
عبقرية هذا الوطن تكمن في قدرته على الاندماج مع العالم، وصهر الجميع داخل بوتقته؛ إن مصر تمنح لهجتها وخصائصها وأسرار عبقريتها لمن يحبها ويشتهي مصريتها ويتلاشى فيها، وهي دولة لا تعرف الاغتصاب أو الإجبار على الإنصهار التام وطمس الهوية أبدًا.
فلماذا الخوف والهلع الدائمين على هوية مصر وشخصيتها، لماذا نتصرف كأن مصر قاصرة وأن العالم يريد لها الشر؟
مصر درة التاج، ولها عشاق لا حصر لهم؛ المهوسون بمصر في العالم لا حصر لهم. مصر وطن عظيم وهويته أكبر من الجميع، ليس لشئ مُبهم أو لسفسطة لا جدوى منها ولكن لأن هذا هو قدر مصر؛ ومصر أرض يُحبها الله بذاته جل جلاله!
سؤال.. هل فقدت مصر شيئًا من هويتها منذ آلاف السنين رغم هذا الإندماج والتداخل؟
هجم الهكسوس على مصر، ودمروا كل شئ وبعد مئة عام خرج الهكسوس كما دخلوا بلا أثر، ولم تطمس هويتها ولم تفقد شخصيتها، بقيت مصر كأن الهكسوس لم يدخلوها ساعة من نهار! ونحن اليوم لا نعرف عن الهكسوس إلا أعدادهم التي كانت لا حصر لها وأنهم همج جاء القائد العظيم أحمس فطردهم وطهر الأرض من بداوتهم وهمجيتهم وهم الحفاة العراة.
حين دخل نبي الله يوسف الصديق مصر، لم يسعه إلا أن يكون مصريًا وكذلك فعل يعقوب وذريته، جميعهم وهم أنبياء الله إندمجوا مع أهل مصر إندماجًا كاملًا وصبغتهم مصر بصبغتها!
غزا الفرس مصر وكذلك الرومان؛ وأراقوا دماءً ومزقوا أجسادًا، لكن مصر خرجت من بعدهم حرة من غير سوء رغم سفك الدماء.
وبقيت مصر كما هي ولم تتغير عند دخول العرب إليها، واستوطنوها فلم تمنحهم مصر إلا ما أرادت أن تمنحهم إياه، ولم تعدل من مظهرها الخارجي إلا بالقدر الذي أرادته، بل كست العرب البساطة وأزالت عن كاهلهم البداوة والغلظة، فما عادوا أجلافًا ولا من صفاتهم القسوة، بل غيرت من الفقه ومن الفتاوى، وحين ودعت لغتها القبطية وغيرت لسانها إلى العربية لم يكن ذلك إلا حبًا في القرآن وعشقًا لرسول الله، ومنحت القرآن عذوبة لم يشهد لها مثيلًا قط، وعشق المسلمون القرآن بصوت قراء مصر العظام، فصار قرآنًا بمذاق ونكهة مصرية أرى بوادر إختفائه الآن مع الهجمة الصحراوية.
بعد أن ترك الإمام الشافعي العراق وحضر إلى مصر غير من طريقته في الفتوى، وأصبح أكثر سماحة ولينًا، وعشق مصر ودُفن في أرضها المقدسة!
مصر معشوقة آل البيت، المصريون هم من أحاطوا أهل البيت بالحب والرعاية والأمن والأمان، وهل وجد أهل البيت أمنًا أو سلامًا في رحاب البيت العتيق أو في العراق والشام؟ إن أمن آل البيت لم يكن إلا في المحروسة، وما السيدة زينب والسيدة نفيسة إلا خير مثال لعظمة هذا الوطن وطيب معدن هذا الشعب!
نمر بسرعة البرق إلى الحملة الفرنسية، وكان حلم الإمبراطور نابليون بونابرت بحكم مصر يفوق كل أحلامه، ولم تكن مصر لقمة صائغة له، بل فقد على أرضها عزته وكبرياءه وخيرة قواده وجنوده، ولم تأخذ مصر من حملته إلا ما رأت أنه يصلح لها ويتفق مع شخصيتها.
كذلك فعلت مصر مع الإنجليز وحملاتهم الاستعمارية، لم تأخذ منهم إلا ما أيقنت أنه يطيب لها، وفي المقابل إنظر إلى دول المغرب العربي، تونس والجزائر والمغرب ولبنان مع الاستعمار الفرنسي، وليبيا مع الاستعمار الإيطالي، وأنظر إلى الهند مع الاستعمار البريطاني، بل إنظر إلى كل دول أفريقيا ودول أمريكا اللاتينية، وإدرس حالة الهنود الحمر.
إن كل الدول التي خضعت للاستعمار سواء كان استعمارًا فرنسيًا أو إنجليزيًا أو إيطاليًا أو بلجيكيًا أو برتغاليًا أو أسبانيًا خسرت عاداتها وتقاليدها ولغتها ودينها وشخصيتها، والهنود الحمر لم يعد لهم أثرًا!
كان محمد على ( 1769 - 2 أغسطس 1849 ) عاشقًا لمصر متيمًا بها، وحين تحقق له ما أراد وملك زمام أمورها منحها دمه وعرقه، وسخر عبقريته لتصبح مصر دولة عظمى. وهكذا فعل إبراهيم باشا (1789 – 10 نوفمبر 1848) والخديوي إسماعيل ( 31 ديسمبر 1830- 2 مارس 1895 ) الذي جعل مصر قطعة من أوروبا، وأسس عباس حلمي الثاني ( 14 يوليو 1874 – 19 ديسمبر 1944 ) مشاريعًا ضخمة وإهتم بها وأكمل مسيرة جده، وكان داعمًا للحركة الوطنية ضد الإنجليز، وعشقه المصريون فخلعه الإنجليز خوفًا من هذا الحب الجارف فغنى المصريون باسمه" الله حى.. عباس جاي".
إنظر إلى مصر في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حين جاء إليها أدباء وفنانون عرب من العراق وسوريا ولبنان بل وأجانب من كل دول أوروبا. هؤلاء امتزجوا بتراب هذا الوطن العظيم وصاروا جزءً لا ينفصل عن مصر أبدًا ولا يصح أن نغض الطرف عنهم حين نتحدث عن تاريخ ومسيرة مصر العلمية والفنية والأدبية.
هنا مربط الفرس، لقد جئنا إلى ما أصبو إليه، "علاقة الأدباء والفنانين العرب والأجانب بمصر" .
كيف صَهرتهم مصر ومَصَرتْهُم بشكلٍ مُذهل، لا نستطيع بأي شكل من الأشكال أن نميزهم عن لداتهم وأقرانهم من المصريين القُح، بل إن الخواجة نيقولا والخواجة يني وغيرهم تعلموا المصرية وعاشوا داخل الحارة المصرية، واختلطوا بأهلها وكانوا جزءً لا يتجزء من نسيج الحارة المصرية العريقة وما أكثر نيقولا وما أكثر يني في مصر في تلك الفترة!
نحن لا نستطيع حصر عشاق مصر الذين تماهوا فيها وأصبحوا جزءً من نسيجها، ونحتاج أيامًا بل شهورًا لسرد اسماء هؤلاء العشاق والمفتونين بمصر.
سليمان باشا الفرنساوي ( 1877 – مارس 1860 ) الذي أسلم سواء كان إسلامًا عن يقين أو نفاقًا ليس هذا ما يعنينا، لكن المؤكد هو عشقه لمصر. لقد تَخَلف عن الحملة الفرنسية وفضل البقاء في مصر واستعان به محمد علي لإنشاء الجيش المصري، فجعل جيشها أعظم جيوش العالم وتوفى بجزيرة الروضة. حفيدته لابنته السيدة توفيقة هانم بنت محمد شريف باشا رئيس وزراء مصر والذي لقب بأبي الدستور في مصر أصبحت بعد ذلك الملكة نازلي ( 25 يونية 1894 – 29 مايو 1978 ) ملكة مصر وزوجة الملك فؤاد الأول ( 26 مارس 1868 – 28 إبريل 1936 ) ووالدة الملك فاروق الأول ( 11 فبراير 1920– 18 مارس 1965 ) الذي حرمها لقب جلالة الملكة بعد أن تحولت عن الإسلام واعتنقت المسيحية هي وابنتها الأميرة فتحية.
نرى أيضا الأستاذ بشارة تقلا ( 1852 – 1901 ) قد أسس مع أخيه سليم تقلا ( 1849 – 1892 ) جريدة الأهرام في 27 ديسمبر 1875 وهي أقدم وأعظم جريدة في الشرق الأوسط، وهما من أصل لبناني.
والأمير شكيب أرسلان ( 25 ديسمبر 1869 - 9 ديسمبر 1946 ) الكاتب والمفكر اللبناني، الملقب بأمير البيان ومن أهم كتبه "لماذا تأخر المسلمون وتقدمهم غيرهم". جورجي زيدان ( 14 ديسمبر 1861 – 21 يولية 1914 ) روائي ومؤرخ وأديب لبناني وهو مؤسس مجلة الهلال، والأستاذ يعقوب صروف ( 1852 – 1927 ) أسس المقتطف في بيروت عام 1876 وبعد عشر سنوات تقريبًا هاجر إلى مصر وواصل إصدارها من القاهرة عام 1888، والشيخ محمد رشيد رضا ( 23 سبتمبر 1865 - 22 أغسطس 1935 ) وهو لبناني أسس مجلة المنار على غرار العروة الوثقى التي أسسها الأستاذ الإمام محمد عبده ( 1849 – 11 يولية 1905 ) والجدير بالذكر أن الإمام نفسه كان والده تركماني، وأمه من أصول مصرية عربية من قبيلة بني عُدي. وحين نذكر الإمام محمد عبده فمن البديهي أن نذكر أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني ( 1838 – 9 مارس 1897 ) وهو عاشق مصر، أثناء سفره إلى الحجاز عرج إلى مصر، فظل بها وصرف نظره عن السفر إلى الحجاز ثم خرج إلى الأستانة وما لبث أن عاد إلى المحروسة فمنحه الخديوي إسماعيل راتبًا شهريًا بلا عمل، نظير أن يبقى في مصر ويفتح بابه لمريديه وتلاميذه!
وفي عام 1908 جاء إلى مصر اللبناني إلياس زيادة ( توفى في القاهرة عام 1929 ) ليصدر جريدة المحروسة، وقد حضر إلى مصر مع زوجته وابنته مي زيادة ( المولودة في الناصرة 1886 - 10 إكتوبر 1941 ) وقد فضلوا العيش في مصر على البقاء في لبنان أو فلسطين، وعشقت مي تراب مصر التي إنطلقت منها إلى عالم الأدب والصحافة والشهرة والمجد حتى صارت أديبة الشرق.
محرر المرأة قاسم بك أمين ( 1 ديسمبر 1863 – 23 إبريل 1908 ) كان والده تركيًا ووالدته مصرية من صعيد مصر، أصدر كتاب تحرير المرأة عام 1899 وتبعه كتاب المرأة الجديدة عام 1901.
كذلك عائلة الرافعي التي تركت الشام واستوطنت مصر وكان منها أكثر من بضع وأربعين قاض يعملون في القضاء الشرعي في أغلب مديريات ومدن مصر، وكان منهم الأدباء والمؤرخين، ومن هؤلاء الرافعية الأستاذ عبدالرحمن الرافعي ( 8 فبراير 1889 – 3 ديسمبر 1966 ) والأديب العظيم مصطفى صادق الرافعي ( 1 يناير 1880 – 10 مايو 1937 ) وجميعهم من أصل سوري.
أمير الشعراء أحمد شوقي ( 16 أكتوبر 1868 – 14 أكتوبر 1932 ) كان والده كرديًا وأمه من أصل تركي شركسي، أما صديقه ورفيق دربه شاعر النيل حافظ إبراهيم ( 24 فبراير 1872 – 21 يونية 1932 ) فكانت أمه تركية، كذلك شاعر القطرين خليل مطران ( 1 يولية 1872 – 1 يونية 1949 ) كان لبنانيًا لكنه استقر في مصر وعشقها عشقًا لا مثيل له وكرمه الخديوي عباس حلمي الثاني بمنحه وسامًا خديويًا ساميًا في 24 إبريل 1913. الشاعر ولي الدين يكن ( 1873 – 1921 ) كان تركيًا وشاعرًا رومانسًا رقيقًا استطاع أن يقف بين عمالقة الشعر وأصحاب القوافي إلا أنه مات مبتليًا بالكوكايين ومصابًا بالسل.
من الفصحى إلى شعراء العامية، وأعظم شعراء العامية المصرية على الإطلاق هو محمود محمد مصطفى بيرم ( 23 مارس 1893 – 5 يناير 1961 ) والمعروف ببيرم التونسي نسبة إلى أسرته التونسية، وكان شوقي دائم القول بأنه لا يخشى على العربية الفصحى إلا من عامية بيرم الرائعة والتي يحبها الشعب وتؤثر فيه مما دفعه إلى الكتابة بأسلوب سهل يقترب إلى العامية الراقية حتى يستميل العامة والبسطاء إلى الفصحى، وهل بلغ أحد عظمة بيرم في الشعر العامي؟
كذلك عاشق مصر فؤاد حداد ( 30 أكتوبر 1927 – 1 مايو 1985 ) كان أبوه لبنانيًا مسيحيًا بروتستانتيًا وأمه مصرية من أسرة سورية كاثوليكية عريقة أما ابنهم الفيلسوف المسحراتي فقد إعتنق الإسلام وكان صوفيًا نقيًا ومصريًا قُح رغم أنه ابن الفرير والليسيه الفرنساويين!
الدكتور شبلي شبيل ( 1850 – 1 يناير 1917 ) وهو كاتب وطبيب سوري، درس الطب واستقر في مصر وعاش فيها أكثر من خمسين عامًا ومارس الطب والكتابة، ومن أهم مؤلفاته كتاب " فلسفة النشوء والإرتقاء"، وهو من رواد العلمانية بل هو أول دعاة الإلحاد في مصر بنى فكره على أساس نظرية النشوء والإرتقاء لداروين النظرية التي درسها وآمن بها، وهو من كفر شيما التي أنجبت عظامًا من النهضويين أمثال نصيف اليازجي وبشارة وسليم تقلا، كذلك أخيه أمين شبلي الذي إحترف التجارة وكان كاتبًا وأسس جريدة الحقوق المصرية.
أليكسندرا قسطنطين الخوري ( 1872 – 1927 ) الإيطالية - اللبنانية والتي حضرت إلى الإسكندرية، وأسست جريدة أنيس الجليس، واستمرت الجريدة عشر سنوات، ولها دواوين شعرية، ولقد عشقت الإسكندرية وإتخذتها وطنًا لها حتى ماتت.
كذلك عباس أبو شقرا ( 1880 – 3 نوفمبر 1943 ) وهو صحفي وشاعر درزي من لبنان، وكان من رواد الصحافة المصرية، أصدر جريدة البرهان، والأستاذ فرح أنطون ( 1874 – 1922 ) وهو صحفي وروائي ومسرحي لبناني، أصدر في مصر جريدة الجامعة، عاش بالإسكندرية ثم هاجر إلى أمريكا فم يصبر على الغربة فعاد إلى القاهرة وإمتهن التمثيل وأعاد نشر جريدة البرهان حتى توفى في القاهرة، وهو من أعلام النهضة العلمانية أيضًا.
دكتور نيقولا حداد ( 1878 – 1954 ) صحفي وشاعر لبناني، وصيدلاني من صيدا انتقل إلى مصر حيث عمل بالصحافة محررًا في الأهرام ثم سافر إلى أمريكا فلم يحتمل البقاء فيها فرجع وأسس مع زوجته روز أنطوان حداد مجلة السيدات والرجال لمدة اثني عشر عامًا ثم رأس تحرير جريدة المقتطف لمدة عام من 1949 وحتى 1950.
هل تريد الصدمة الكبرى، أن والدة الأديب المصري عباس محمود العقاد ( 28 يونية 1889 – 12 مارس 1964 ) كانت كردية، وكان العملاق يعتز بهذا أيما إعتزاز، ولقد أحسنت تربيته وكانت ذات تأثير غير عادي عليه.
السيدة روز اليوسف ( 1897 – 1958 ) صاحبة مجلة روز اليوسف، وهي أشهر مجلة مصرية في العصر الحديث، ممثلة لبنانية وانتقلت إلى مصر وإحترفت التمثيل مع فرقة رمسيس ثم إحترفت الصحافة وأسست مجلتها وجريدتها وكلاهما لهما نفس الاسم والتي كانت أمًا لأعظم أدباء مصر الأديب إحسان عبد القدوس ( 1 يناير 1919 – 12 يناير 1990 )، وهو من شكل وجدان المصريين ونادى بحرية المرأة وكانت رواياته تتناقلها فتيات مصر في الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت.
كما أن الأديب الكبير يحى حقي ( 17 يناير 1905 – 9 ديسمبر 1992 ) كانت جذوره تركية، وخالته هي السيدة حفيظة المورالية التي كانت خازندارة في قصر الخديوي إسماعيل، ترك أغلب أهله وأقاربه الأنضول واستقروا في مصر وجميعهم عشقوا مصر.
هل بعد الأدب والشعر والعلم ندخل إلى الفن؟ لندخل ولسوف نجد اسماءً لا حصر لها، اسماء عشقت مصر ومنحوها عرقهم ودماءهم، ومنحتهم مصر مصريتها، فكانوا سعداء بهذا العطاء أيما سعادة.
يعقوب روفائيل صنوع ( 15 إبريل 1839 – 1912 ) المعروف بيعقوب صنوع أو موليير مصر كما اسماه الخديوي إسماعيل، رائد المسرح المصري، والسيد جورج أبيض ( 5 مايو 1880 – 12 فبراير 1959 ) لبناني قدم إلى مصر وكان مُعدمًا، عشق التمثيل وشاهده الخديوي عباس حلمي وأعُجب بفنه، فأرسله ليتعلم فن التمثيل في باريس، وبديعة مصابني ( فبراير 1892 – 23 يوليو 1974 ) صاحبة كازينو بديعة، وقد جاءت إلى مصر بعد أن تعرف عليها نجيب الريحاني وتزوجها، وكان الكازينو في ميدان الأوبرا ملتقى الأدباء والشعراء، وكان الملك فاروق واحدًا من رواده، ومن كازينو بديعة خرج عمالقة الفن والغناء والتمثيل والرقص الشرقي في مصر.
أما زوجها الفنان نجيب الريحاني ( 21 يناير 1889 – 8 يونية 1949 ) فقد كان من أصل عراقي، وهل يعتقد أحد أن عبقري الكوميديا المصري لم يكن مصريًا أبدًا؟
اما العبقري استيفان روستي ( 16 نوفمبر 1891 – 12 مايو 1964 ) فقد كان من مواليد الإسكندرية من أب نمساوي وأم إيطاليه، وأنا من عشاقه ويسحرني أداءه الساحر، هل شعر احد منا أن إستيفان روستي كان أجنبيًا؟
عبد السلام النابلسي ( 23 أغسطس 1899 – 5 يولية 1968) كان لبنانيًا لكنه مصري حتى النخاع بلهجته ومعاركه اللذيذة مع زينات صدقي، وصداقته الراقية بالعندليب الأسمر وفريد الأطرش.
أما فريد الأطرش ( 19 أكتوبر 1910 – 26 ديسمبر 1974 ) وهو من جبل الدروز بسوريا، وهو من أعظم الأصوات المصرية على الإطلاق، وبكى حين سافر إلى لبنان وغاب عن مصر فترة من الزمن، ومن ينسى أغنيته الشهيرة سنة وسنتين؟ كما أنه توفى في لبنان بمستشفى الحايك، إثر أزمة قلبة داهمته، وأوصى بنقل جثمانه إلى مصر ليُدفن بجوار أخته أسمهان صاحبة الصوت العبقري، أسمهان أو الأميرة آمال الأطرش ( 25 نوفمبر 1917 – 14 يولية 1944 ) هي أعظم صوت مصري ظهر في العصر الحديث وهو الصوت الوحيد الذي نافس كوكب الشرق على عرش الغناء لولا أن القدر لم يمهلها لتمنحنا مزيدًا من العبقرية وفيضًا من فنها الملائكي الراقي.
داوود حسني ( 26 فبراير 1870 – 10 ديسمبر 1937 ) يهودي تتلمذ على يديه عباقرة فن التلحين في مصر، والمخرج توجو مزراحي ( 2 يونية 1901 – 5 يونية 1986 ) فهو من أصل إيطالي، وكذلك المخرج الإيطالي فولبي مخرج فيلم الغندورة سنة 1935 لمنيرة المهدية وهو الفيلم الوحيد لها.
فوزي الجزايرلي ( 21 يولية 1886 – 23 فبراير 1947 ) وابنه فؤاد الجزايرلي وابنته إحسان الجزايرلي ( 25 يونية 1905 – 28 سبتمبر 1943 ) وهم من ساهموا في صناعة السينما المصرية تأليفا وتمثيلا وسيناريو وإنتاجًا، إهتموا بالمسرح الاستعراضي، والعبقري بشارة وكيم مصري أصيل لكن هنا أذكره لأن أغلب المصريين إعتقدوا أنه من أهل الشام! وهو صاحب أجمل تعبير مع الفنان يوسف وهبي في فيلم غرام وانتقام " الكلام إلك يا جارة".
ولا أريد أن أغفل اسماءً عظيمة عاشت على أرض مصر وعشقتها لأن من حق هؤلاء أن أذكرهم ما دمت أتحدث عن عشاق مصر، لكن يجب عليً أيضًا أن أختصر قليلًا في مقالتي لذلك سوف اسرد في عجالة اسماء بعض هؤلاء الفنانين.
الشحرورة صباح، نجاح سلام، العظيمة سعاد محمد، كروان الشرق فايزة أحمد، وردة الجزائرية، والفنانة نور الهدى، والفنان السوري إلياس مؤدب الذي بجانب أنه ممثل خفيف الظل فقد أهدى للفن الطفلة المعجزة فيروز وهي مصرية من أصل أرميني، وتبناها بعد ذلك فنيًا وخلد اسمها الفنان العبقري أنور وجدي، ومن المعروف أن أختها هي الفنانة نيللي وابنة عمتها الفنانة لبلبة.
السيدة ماري كوين، لبنانية هي صاحبة أعظم شركة إنتاج مصرية، ولها دور ريادي في تاريخ السينما المصرية، والفنانة العظيمة ليلى مراد أو ليليان، ابنة إبراهيم زكي موردخاي، الذي أدى دور العشرة الطيبة من ألحان سيد درويش، وأمها جميلة سالمون من أصل بولندي!
هل شعرت يومًا أن ليلى مراد صاحبة المجد والتاريخ الغنائي والسينمائي العظيم لم تكن مصرية خالصة وكذلك منير مراد صاحب أجمل الألحان؟
الفنان عادل أدهم كانت أمه تركية، والفنان العالمي عمر الشريف أو ميشيل دمتري شلهوب من أسرة شامية مصرية، والمخرج العالمي يوسف شاهين هو من مواليد الإسكندرية من أب لبناني من مدينة زحل شرق لبنان وأمه يونانية هاجرت إلى مصر في نهاية القرن التاسع عشر.
سندريلا الشاشة المصرية سعاد حسني وأختها الفنانة الكبيرة نجاة من أم مصرية وأب سوري هو الخطاط الشهير محمد كمال حسني البابا، والفنانة ميرفت أمين أمها اسكتلندية ووالدها صعيدي من المنيا.
الفنان رشدي أباظة دونجوان السينما المصرية أمه إيطالية وكانت تتولى إبرام العقود الفنية نيابة عنه حتى بلغ السن القانونية!
ماري سليم حبيب نصرالله.. وهي العظيمة ماري منيب كانت سورية المولد حضرت مع أهلها وعاشت في شبرا ثم عملت راقصة حتى إنضمت إلى فرقة نجيب الريحاني عام 1937.. هل تصدق يومًا أن هذه السيدة الجميلة ليست مصرية أصيلة؟
هؤلاء وغيرهم كثر، والذاكرة لا تطاوعني في ذكر اسماء أخرى، لكن كل هؤلاء لم يذكر أحد أنهم أجانب، بل كانوا يفتخرون دائما بمصريتهم وعشقوا هواء مصر فأعطتهم مصر الخلود والمجد.
أخيرًا؛ إن الأمر يتعدى سرد أسماء هؤلاء الأعلام والأفذاذ إلى أمر أشد أهمية وأكثر إلحاحًا وهو الغرض الأساسي من هذا المقال؛
السؤال هو.. لماذا توقفت مصر على إحتواء القادمين إليها ورعايتهم ومنحهم صبغتها وشخصيتها ليضيفوا إلى رصيدها الحضاري والفكري والثقافي؟
منذ بداية هذا القرن بدأ الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وقدم إلى مصر إخوة من العراق، لم يكن منهم العلماء والأدباء والعباقرة بل حضر عموم العراقيين فقط - مع كامل الإحترام لهم - أما العلماء والأدباء والفنانيين فقد إحتواهم الغرب والأمر تعدى الإحتواء إلى التربص والاصطياد والإغتيال أحيانًا، حيث قام الموساد الإسرائيلي بقتل عشرات من العلماء وتحديدًا علماء الفيزياء النووية والتخصصات النادرة!
مع بداية الربيع العربي، جاءت أفواج لا حصر لها من السوريين والعراقيين واليمنيين والليبيين، وأيضا لم نجد سوى محلات للأكلات الشامية والشاورمة السورية ومحلات المندي والأكلات العراقية، أين عباقرة الأدب والفن والمسرح، أين الشعراء ورجال الصحافة، أين المترجمين والعلماء والرسامين؟
جُل هؤلاء غيروا قبلتهم ناحية الغرب والدول الاسكندنافية وتركيا، القليل منهم أغراهم الوضع الإجتماعي والإقتصادي المرتفع في دولة الإمارات فأقاموا بها وأصبحوا رؤساءً لكبرى المجلات الثقافية ذات الشأن هناك. هل مصر لم تعد وطنًا يُغري هؤلاء كما كانت تغري أجدادهم من قبل؟ هل لأن الثقافة والعلوم لم يعد لهما مكانًا في وطننا العربي كله وأن أرضنا صارت جدباء قاحلة لا تصلح إلا للحوانيت والمطاعم؟ أم أن إعلامنا لا يُسلط الضوء إلا على عينات مثل اللمبي والأسطورة وأوكا وأورتيجا؟
إن الإعلام مقصر لا ريب في إماطة الستار عن نوابغ هذه الأمة، والمؤسسات الثقافية المصرية التي تخاطب الفكر وترعى الثقافة وتتولى بناء الإنسان ثقافيًا وفكريًا هي الأخرى مقصرة لا ريب أيضًا في تبني هؤلاء الأفذاذ.
إن المؤسسات الثقافية المصرية لها دور مع المواطن المصري الذي تدنى في حواراته ونقاشاته وأصبح لا يستوعب الفكر الآخر وتقلص إهتمامه بالفكر والثقافة والأدب والفنون، ولها دور آخر وأساسي مع الأشقاء العرب الذين يحمل بعضهم قدرًا لا يستهان به من الثقافة والفكر. إن هؤلاء جواهر نفيسة وعملات نادرة أنفقت دولهم أموالا طائلة ليصبحوا أعلامًا في أوطانهم وركيزتها الفكرية والثقافية وحالت الظروف السياسية والدولية والمطامع الاستعمارية بينهم وبين هذا الغرض في الوقت الحاضر وحري على مصر أن تستفيد منهم وترعاهم لتجني العزة وتحقق النهضة المرجوه.
أنا على يقين أن هناك ألف ألف عبقري يمكن لمصر أن تكتشفهم سواء من داخلها أو ممن يحجون إليها من الأقطار العربية الشقيقة، لكننا نريد أن نمهد لهم الطريق، ونفتح لهم الأبواب ونذلل العقبات التي تعيق عطاءهم وتمنعهم من تقديم أفكارهم البناءة في خلق حضارة جديدة وتقدم ثقافي وفكري قد يفوق ما حدث على أرض مصر نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
إن مصر تمنح ثقلها وعبقريتها لكل إنسان، وهي قادرة على إذابة كل البشر في بوتقتها، فليس أمامنا إلا أن نفتح الباب على مصراعيه أمام كل من يعشق مصر ليمنحها عشقه ودمه وعرقه، ومصر لها باع طويل في إحتواء من يأتي إليها وتمنحه صفاتها وجيناتها المصرية التي يقبلها عن طيب خاطر لأنه يهوى الخلود ويعشق أن يقترن اسمه بإسمها، ومصر خالدة وذكرها باق إلى يوم الدين، وهذا هو سر قوتها الناعمة.