رواية “كالماء للشوكولاته” للكاتبة “لاورا إسكيبيل”، نص ممتع، يضع القارئ في حالة ضياع من فرط “لذة النص”. الواقعية السحرية تتجلى في صورة بهية. الواقعية السحرية وبشكل بسيط، هي تلك اللحظات السحرية الغامضة التي تندمج في الواقع كأنها جزء منه، لا بل هي جزء منه ومن تكوينه. أي أن الشخوص الروائية لا تستغرب أو تستهجن أي عنصر سحري يراه القارئ (غير حقيقي)، فالواقع والحقيقة في الرواية وخارجها هو ذاته، إلا أن الواقعية في الرواية سحرية.
أما عن التصنيف غير الأدبي لهذه الرواية، فهي رواية يمكن تصنيفها كفاتح شهية؛ فاتح شهية للطعام والطبخ والقراءة لكتاب أمريكا اللاتينية والحب والتمرد. في فصولها التي كتبت على عدد أشهر السنة الواحدة، تفتتح إسكيبيل كل فصل بمقادير وجبة شهية، وتروي قصة “تيتا” وعلاقتها بكل شيء حولها: العائلة والحبيب “بيدرو” والأهم من هذا كله، علاقتها بالمطبخ والطهو والطعام. لذلك كان العنوان الثانوي للرواية “رواية على حلقات شهرية مع الوصفات، وغراميات، وعلاجات منزلية” وصفًا دقيقًا جدًا.
لذة النص في رواية كالماء للشوكولاته
يفرق “رولان بارت” في كتابه “لذة النص” بين نص اللذة ونص المتعة، فيقول:
“نص اللذة: إنه ذلك الذي يرضي، يفعم، يغبط، ذلك الذي يأتي من صلب الثقافة ولا يقطع صلته بها – هذا النص مرتبط بممارسة مريحة للقراءة. أما نص المتعة، ذلك الذي يضعك في حالة ضياع، ذلك الذي يتعب…”.
نص المتعة يغمس الفارئ في النص بشكل كامل، لن يضيع القارئ أبدًا إذا لم ينعجن في ثنايا النص، ولن يغمسك أي نص أيضًا، فهي عملية تبادلية وتكاملية بين القارئ والمؤلف.
التعبير عن هذا الانغماس قد يتجاوز حدود اللغة:
“فإنه (أي نص المتعة) يجعل القاعدة التاريخية والثقافية والسيكولوجية للقارئ تترنح، ويزعزع ثبات أذواقه وقيمه وذكرياته ويُؤزّم علاقته باللغة”.
القارئ المتعب والضائع في قراءة النص قد يجد صعوبة في التعبير عن ذلك. تمامًا كالموسيقى، فهي قادرة على إيصال المعنى بشكل مختلف.
لذة النص في رواية “كالماء للشوكولاته” للكاتبة “لاورا إسكيبيل”.
ولدت تيتا في عائلة تفرض على أصغر بناتها الالتزام برعاية الأم، وبالتالي عدم الزواج وعدم الوقوع في الحب وتذوق طعمه لحين وفاة الأم، ماما “إيلينا”.
ماما إيلينا هي التي تدير كل تفاصيل الحياة في هذا المنزل، بما فيها تفاصيل حياة تيتا وأختيها.
ماما إيلينا شخصية شديدة وقاسية، تقول تيتا: “فضيلة ماما “إيلينا” الوحيدة هي العثور على العيوب”. استطاعت أن تفرق بين تيتا وبيدرو وأن تفرض زواجًا خاليًا من الطعم، باردًا، بين بيدرو وأخت تيتا الكبرى.
لم أعتد سابقًا على ذكر الأحداث الروائية بهذا الوضوح، إلا أنني أريد بشكل مباشر أن أسلط الضوء على ثيمة خفية في هذه الرواية، فبما أن العنوان الثانوي أشار إلى بعضها، وعتبات الفصول تشير إلى بعضها الآخر، إلا أنه قد يخفى على القارئ ثيمة مهمة جدًا: الحرارة!
البشر كأعواد ثقاب – ثيمة الحرارة في الرواية
رواية كالماء للشوكولاته للكاتبة لاورا إسكيبيل: بين نص اللذة والواقعية السحرية!
الشوكولاته عنصر قادر على أن يسيل لعاب الكثيرين (أنا منهم عزيزي القارئ)، يذوب في الفم، فيسكن أثره في القلب ويستقر في المعدة.
تداعب الحواس كلها، إنها ممتعة بكل المقاييس.
نجد في الرواية أن عناصر الطهو حاضرة دائمًا: الحرارة والرائحة والمقادير وطريقة التحضير والتقديم.
“فعندما يدور الحديث عن الطعام، وهو أمر بالغ الأهمية، لا يمكن إلا للحمقى أو المرضى ألا يولوه ما يستحقه من الاهتمام”.
لهذه الدرجة من الأهمية وصل الحد بإسكيبيل أن تكتب عن الطعام. ربما تحاول إسكيبيل أن تقول بأن الحب أيضًا يطهى ويحضر وينضج، مثل الطعام تمامًا! قد تفسد نكهته درجات الحرارة العالية جدًا، أو الباردة جدًا.
لذلك تصف إسكيبيل خطوات تحضير الطعام وصفًا دقيقًا، أملًا في أن تعطي لنا الوصفة المثالية، لتجمع الطعم والشكل والرائحة.
عودة إلى الشوكولاته.
في الوصفة الأهم، تحكي لنا “لاورا إسكيبيل” طريقة تحضير الشوكولاتة المخفوقة. العدو الأكبر لهذه الوصفة هي الحرارة فالنقص في غليها أو الزياردة في غليانها يؤدي إلى كثافة قوام الشوكولاتة أو احتراقها، ولتفادي ذلك نقوم بوضع لوح الشوكولاته على النار مع الماء، فهو المنقذ لصناعة هذا المخفوق اللذيذ، المليء بالحب.
عندما تكاد أحداث الرواية أن تصل ذروتها، يدور حوار بديع مفاده أننا كبشر نمتلك العناصر اللازمة لإنتاج الكبريت.
الحرارة التي تولد الحب والشغف، هي ما نحتاج لإشعالنا.
قد يكون ذلك من خلال الموسيقى أو كلمة أو أنفاس شخص محبوب.
“إذا كنا جميعنا نولد وفي داخلنا فسفور بمقدار علبة من ثقاب، فإننا لا نستطيع أن نشعلها وحدنا…”
فإذا كنا قابلين للاشتعال كأعواد الثقاب، سنكون معرضين بشكل كبير للانطفاء:
“لذا يجب علينا البقاء بعيدين عن أشخاص أنفاسهم جليدية.
فمجرد حضورهم، وفقًا للنتائج التي صرنا نعرفها، يمكن أن يطفئ أشد النيران زخمًا.
وكلما ابتعدنا أكثر عن هؤلاء الأشخاص، تكون حمايتنا من أنفاسهم أكثر سهولة”.
البشر كأعواد ثقاب!
البشر كأعواد ثقاب – ثيمة الحرارة في رواية لاورا إسكيبيل كالماء للشوكولاته.
بشكل عام، فإن علاقتنا لا بد أن تطهى على درجة حرارة مناسبة، أن تكون الشرارة أشعلت أعواد ثقابنا في الوقت المناسب، واختلطت مع غاز الأكسجين في الوقت المناسب، لذلك قد يكون التوقيت لاعبًا أساسيًا لاشتعال أحد أعواد ثقابنا، التوقيت عامل أساسي في هذه الرواية أيضًا، فما حدث بين تيتا وبيدرو كان دائمًا مقترنًا بعامل الوقت. الشعلة موجودة، إلا أن الأكسجين لم يكن حاضرًا بعد.
“لأن عاطفة قوية جدًا قد تؤدي إلى اشتعالها (أي أعواد الثقاب) كلها دفعة واحدة فتنتج وميضًا قويًا إلى حد يضيء معه ما هو أبعد مما يمكننا رؤيته بصورة عادية، وعندئذ يظهر أمام عيوننا نفق متألق يكشف لنا الطريق الذي نسيناه في لحظة مولدنا والذي يدعونا للعودة إلى اللقاء بأصلنا الإلهي الضائع. فالروح ترغب في الارتداد إلى المكان الذي جاءت منه وتترك الجسد خامدًا…”
أما نهاية رواية “كالماء للشوكولاته”، فتصب في مصلحة أن تكون الحرارة والاشتعال، ثيمة رئيسية لهذا العمل. نص ممتع، عالي الطراز وصلت فيه لذة النص للذروة، كتبته “لاورا إسكيبيل” وترجمه الراحل الكبير صالح علماني، فزاد الحسن حسنًا. كل شيء بمقدار، كتحضير الطعام تمامًا.
لا تقرأ هذه الرواية وتكتفي، بل اقرأ وتذوق.