أي دارس لفن كتابة السيناريو السينمائي يعرف أن هناك مصادر متعددة للحصول على قصص لفيلمه، منها التاريخ، وقصص الناس الحقيقية وبالتأكيد الأدب بكل أشكاله، لذلك ارتبطت السينما منذ بدايتها بالاقتباس من ذلك الوسيط الراسخ والذي يسبقها بسنوات عديدة، نما وتطور خلالها ومر بمراحل مختلفة جعلته منهلًا غنيًا، لا يتوقف عن إمدادها بالقصص.
وعندما نقول أن السينما اقتبست من الأدب لا نقصد هنا الاقتباس من فني الرواية والقصة فقط، فالاقتباس من الوسيط الأدبي أكثر تنوعًا وإبداعًا من ذلك بكثير، فقد شاهدنا أفلام مقتبسة حتى من مقالة منشورة، أحدها عُرض فقط في العام الماضي وهو “A Beautiful Day in the Neighborhood” من بطولة “توم هانكس“، أو من الملحمة أو الموال، مثلما حدث مع موال “أدهم الشرقاوي” الذي تحول إلى الوسيط الإذاعي وكذلك السينمائي في فيلم شهير، وكذلك “حسن ونعيمة”.
ولكن على الرغم من هذه العلاقة الوثيقة بين السينما أو فن الصورة والأدب إلا أنها تبدو كما لو كانت حب من طرف واحد، فنقاد الأدب، والمعنيون به بشكل عام لديهم دومًا ورقة رابحة في أي مقارنة وهي أن الصورة المتحركة فن وليد، فن لازال يحبو على الرغم من مرور أكثر من مائة عام على اختراعه، لا يمكن أن يضاهي روعة الأدب وعراقته.
مع اتهام آخر جاهز هو عدم قدرته الصورة على تقديم الرواية بكامل تفاصيلها، وتدميرها خيال محبي العمل الأدبي، وبالتالي أي فيلم مقتبس من عمل أدبي هو أقل منه بالضرورة، ويستخدم في ذات السياق مصطلح “اقتباس غير أمين”.
لكن هل يجب أن يكون العمل السينمائي أو التلفزيوني أمينًا للمصدر الأدبي، أو لأي مصدر آخر، هل هو مجرد عملية نقل من شكل الكلمات إلى شكل الصورة، أيا كان مصدر هذه الكلمات قصة حقيقية أو تاريخية أو أدبية؟
الاقتباس أكبر من مجرد نقل
تقول الدكتورة سلمى مبارك في كتابها “النص والصورة السينما والأدب في ملتقى الطرق” عن مصطلح الاقتباس في اللغة اللاتينية أن الكلمة ذاتها تعني لغويًا وجود تراتبية بين العمل المقتبس منه والعمل المقتبس؛ لأن الترجمة الحرفية لكلمة Adbation هي الموائمة أو التكييف، أي أن هناك نص يحاول أن يتوائم ويتكيف مع نص آخر أعلى منه في التراتبية، وفي اللغة العربية كذلك القبس تعني أخذ أو استفاد من منبع أفضل وأعلى.
وكما نرى في اللغتين هناك نوع من التراتبية المفروضة على العلاقة بين العمل الأدبي والصورة، بينما في حقيقة الأمر العلاقة بين الاثنين ليست على هذه الشاكلة، بل هي نقطة تلاقي بين نصين لكل منهما خصائصه الخاصة، علاقة وصفتها سلمى مبارك بالعلاقة التفاعلية المركبة.
لذلك فكرة النقل الأمين أو غير الأمين هي ليست فقط خاطئة ومخزية لوصف هذه العلاقة، لكن كذلك وجهة نظر محدودة جدًا لهذه العلاقة الواسعة، والتي ليس لها بالفعل حدودًا واضحة، ولا يجب أن يكون لها في الحقيقة، لأنها رحبة رحابة الفن الذي يبتلع كل شيء ليخرج لنا منتج بهي نستمتع به.
لذلك من وجهة نظري الخاصة أفضل كلمة للتعبير عما يحدث في عملية الاقتباس هي “المعالجة” أو “إعادة الاكتشاف” أو “إعادة قراءة” للعمل الأدبي وتقديم هذه القراءة أو الرؤية على شكل صورة، وربما واحدة من أفضل الأعمال التي فعلت ذلك بصورة فيلم “Annihilation” الذي قال مخرجه “أليكس جارلاند” أنه عندما اقتبس الرواية إلى الفيلم لم يعيد قرائتها مرة أخرى، بل قدم ما تذكره منها فيما يشبه الأحلام، لتصبح الرواية إلهامًا في هذا الاقتباس وبنية أساسية لعالم سينمائي أقامه صانع العمل المصور.
في كل أسبوع يوم جمعة الاقتباس بمعناه الأكثر رحابة
السينما والتلفزيون المصري اعتمدا لفترة طويلة على الأعمال الأدبية، سواء العربية أو المترجمة عن لغات أخرى، ولكن للأسف نسبة معقولة من هذه الأعمال جاءت ركيكة وضعيفة سينمائيًا، وربما كان السبب وراء ذلك التزام صناعها بما يسمى “النقل الأمين” للنص الأدبي، في عدم فهم واضح للاختلافات بين الوسيطين الذي ينتقل بينهما النص.
ولكن هناك على العكس، صناع أفلام وسينمائيين استطاعوا فهم هذه الفروقات، ليصنعوا أعمالًا لا تنسى، ومن أبرز الأمثلة على هذه الاقتباس الذي صنع اختلافات واسعة في النص الأدبي لصالح العمل السينمائي فيلم “الكت كات” المقتبس عن رواية “مالك الحزين” لإبراهيم أصلان.
مالك الحزين
من قرأ الرواية ثم شاهد الفيلم أو العكس سيجد أن العلاقة بين النصين ليست واضحة صارخة كما نعتاد في الأعمال المقتبسة، فقد أخذ المخرج والسيناريست لهذا الفيلم داوود عبد السيد من العمل الأدبي شخصية “الشيخ حسني” والخط الخاص به وبعض أحداثه، وقام بتطويرها ومعالجتها وتقديم هذه الشخصية النابضة بالحياة التي وجدناها على الشاشة بمفارقاتها المذهلة.
وخلال مشاهدتي لمسلسل “في كل أسبوع يوم جمعة” الذي بدأ عرضه منذ ست أسابيع على منصة “شاهد” التابعة لمجموعة أم بي سي ثم قراءة الرواية المقتبس عنها، وهي من تأليف الروائي “إبراهيم عبد المجيد”، تذكرت سريعًا اقتباس “داوود عبد السيد”.
ففريق الكتابة في مسلسل “في كل أسبوع يوم جمعة”، المتكون من: “إياد إبراهيم، وسمر عبد الناصر ومحمد هشام عبية” قاموا بأخذ خيط واحد من أحداث الرواية، وشخصيتين وعملوا على معالجتهم وتطويرهم وتحويلهم إلى العمل المتماسك الذي شاهدناه في المسلسل، بل أضافوا إليه كذلك وعالجوا القصور في العمل الأدبي.
رواية في كل أسبوع يوم جمعة
بالرجوع إلى النص الأدبي نجد أن رواية “في كل أسبوع يوم جمعة” التي تدور أحداثها على أحد المنصات الإلكترونية تقوم صاحبتها بقبول الأصدقاء كل يوم جمعة فقط، عانت شخصياتها من التسطيح الشديد، ولم يوجد بينها روابط حقيقية، ويعتبر الكثيرون أن هذا العمل هو أقل روايات إبراهيم عبد المجيد بين أعماله الأدبية الأخرى، أي أن صناع المسلسل أخذوا نص معيب، وقاموا بالفعل بأخذ أفضل ما فيه، وطوروه.
كذلك قام صناع العمل بتغيير النوع الأدبي الخاص بالرواية إلى نوع مختلف في المسلسل، فالرواية يمكن اعتبارها عمل اجتماعي بانورامي للمجتمع المصري في بداية الألفية، بينما اختار مسلسل في كل أسبوع يوم جمعة أن ينحو إلى الإثارة والتشويق والغموض.
وهذا التغيير جاء في صالح العمل الدرامي، وجعله مختلفًا عن مسلسلات وأفلام وروايات أخرى متشابهة أرادت أن ترينا الفئات المختلفة التي تعيش في مجتمعنا، مثلما حدث من قبل في “عمارة يعقوبيان” على سبيل المثال في الرواية أو الفيلم المقتبس منها.
في النهاية، نجد أن “في كل أسبوع يوم جمعة” مسلسل صناعه أكثر فهمًا لروح الاقتباس الأدبي أكثر من غيرهم من العاملين في وسيط الصورة، وربما كان بداية لنرى أعمال أخرى تفهم روح النص بدلًا من محاولة النقل الحرفي.