جاء إدريس من نفس العالم الذي جاء منه تشيخوف وماركيز وهاروكي موراكامي ونجيب محفوظ، هؤلاء الرجال الذين بالتأكيد امتلكوا باباً سحرياً خفياً في مكان ما بمنزلهم يقودهم لعالم آخر مختلف، عالم شفاف، يرون فيه ما بداخل النفس البشرية بوضوح، يقرؤون أفكار البشر داخل أدمغتهم، يلمسون أرواحهم بأيديهم، ليعودوا بقصص وحكايات منهكة..
منهكة لمن يقرؤها ولمن يكتبها على حد سواء، واقعيتها تجعلنا نكتشف العالم بعيون مختلفة، تتفتح آفاقنا على أشياء أخرى عجز عقلنا القاصر -غير الشفاف- عن فهمها. أكاد أجزم أن من يقرأ هذه القصص لا يعود كما كان من قبلها.
القصة الأولى: نظرة
ورغم نبوغ إدريس في الرواية أيضاً، مثل رواية الحرام التي تعد ضمن أعظم الروايات العربية حتى يومنا هذا، إلا أن نبوغه الكامل كان في القصة القصيرة، يقال دوماً أن القصة القصيرة أصعب كتابةً وتكنيكاً من الرواية، الكاتب يستعرض في عدد قليل من الكلمات حكاية كاملة لها بداية ووسط ونهاية، شخصيات مرسومة دون الاستفاضة في التفاصيل التي تمنحها الرواية في الوصف لإقناعك بالتعاطف مع الأبطال..
هو هنا يمنحنا لمحة واحدة وجانباً واحداً من الشخصية. بالنسبة لإدريس.. يمكننا اختصار تاريخه كله في قصة واحدة لم تتجاوز الصفحة ونصف، وهي قصة نظرة ضمن مجموعة أرخص ليالي، التي بدت كلوحة مرسومة بدقة للمحة من حياة خادمة طفلة صغيرة، تحمل صواني كعك العيد على رأسها وتقف دقيقة، دقيقة فقط تتأمل فيها الأطفال الآخرين يلعبون الكرة في سعادة.
هذه النظرة، هي النظرة المقروءة الأولى في تاريخ العالم، والتي وصلت كاملة إلى خيالنا لنراها بوضوح، ولتعتصر قلوبنا غصة طفلة محرومة من السعادة بلا ذنب، مثلها مثل كل شخص آخر في العالم، يفتقد شيئاً ما دائماً، من أغنى أغنياء العالم، إلى أكثرهم بؤساً وفقراً.
القصة الثانية: في الليل
الفقد فعلاً يتجلى دوماً في قصص إدريس، وهو عامل أساسي في معاناة أبطاله، فقدٌ مُقّنع بالرضا وكأنما لا يلاحظه أحد، لا يتعمد إدريس نفسه وصفه والمبالغة في جذب الأنظار إليه، هو فقط يحكي الحكاية برتوشه الخفية، والطاقة الحسية المنبعثة بغرابة بين السطور، لنفهم نحن كل ما لم يقال.
في القصة الأخيرة في مجموعة أرخص ليالي، والتي تحمل عنوان “في الليل” يلتقط يوسف إدريس بكاميرا مشاعره الخاصة، لقطة قد تبدو عادية جداً، عبد الرحمن عوف، القروي الفقير يبحث مساء ليلة عن ثمن كيلة الذرة التي يحتاجها بيته، الفلاح الخجول خفيف الدم الذي يعفّ عن السؤال، يكتفي بالجلوس مع باقي رجال القرية ليتسامر معهم، وهو المعروف بخفة ظله وحكاياته المسلية..
عوف نفسه يشعر معهم فقط بأهميته، بعدما ظل طيلة اليوم يشعر بالعجز وقلة الحيلة أمام توفير أدنى متطلبات بيته، لكنه هنا وهو يقص الحكايات، ويطلق النكات، يشعر بقيمته في الحياة، يشعر بالانفصال قليلاً عن هموم العالم التي يحملها على كتفيه، هو أفقر رجل في القرية، لكنه الأهم في ذات الوقت..
من حوله أيضاً عاجزون عن مساعدته، بالكاد يطعم كل واحد منهم أفواه أطفاله، هم يحبونه لكنهم عاجزون عن المساعدة، وهو يحلم بالمساعدة عاجزاً عن الطلب.. أليس هذا اختصاراً للحياة كاملة؟
ينفض الجميع همومهم في الليل، يعيشون بضع دقائق في عالم آخر يشعرهم بآدميتهم ولو لبعض حين، وحين تشرق الشمس، يعود الجميع إلى مشاكله، ويعود عوف ليبحث عن ثمن كيلة الذرة..
هذه القصة العادية تماماً، يسردها إدريس بأسلوبه الخاص فنتوحد مع كل طاقة الإنسانية المنبعثة منها، هذا هو الإنسان الذي لا يريد سوى بضع لحظات من السعادة بعيداً عن الفقد، السعادة التي تؤرقها المتاعب، لكنه يحاول بكل جهده الاستمتاع بها رغماً عن كل وأي شيء.
القصة الثالثة: آخر الدنيا
هنا، يتضح الفقد أكثر وأكثر، بصورة أقوى وأكثر حسية، طفل صغير يرحل أباه تاركاً إياه مع جدته في قرية بعيدة، طفل معزول حساس لا يجد من يشعر بمعاناته في اليتم، منبوذ في المدرسة لفقره الشديد، منبوذ في المنزل المزدحم بالأعمام والأخوال، يمنحه والده قطعة عملة. ريالٌ فضي كان مبلغاً ثميناً في تلك الفترة، كنوع من تعويض رحيله الذي سيدوم إلى الأبد هذه المرة، لكن الطفل لا يتمسك بقطعة العملة هذه بسبب قيمتها المادية، وإنما لأنها آخر ما منحه إياها والده قبل الرحيل.
يتنفس الطفل ويعيش وينام ويصحو وهو يحتضنها، كانت هي القطعة التي تسد الثقب الهائل من الفقد في روحه، يعاقبه المدرس فيلمسها طلباً للمواساة، يقطع أربعة كيلومترات في برد الصباح إلى المدرسة، فيلمسها طلباً للدفء، لا يجد الاهتمام من أي شخص حوله، فيلمسها طلباً للحنان.
لكن وكأي شيء آخر جميل، تضيع القطعة وتختفي فجأة، لتتحول حياته إلى رحلة بحث محموم عن آخر ما يربطه بالسعادة، يكاد ييئس أخيراً ويستسلم للثقب الذي يملأ روحه، لكنه يتذكر فجأة مروره بطريق السكة الحديدية يوم فقدها، يهرع الطفل (الذي لم نعرف اسمه بالمناسبة) إلى هناك، ويجدها فعلاً، لكن الأوان يكون قد حان لوصوله معها إلى آخر دنياه الصغيرة، وهو يقف سعيداً منتشياً أمام قطار مسرع ضخم قادم من ورائه، يستغيث به أن يبتعد..
القصة الرابعة: أكان لابد يا لي لي أن تضيئي النور؟
يبدو سخط إدريس واضحاً جداً على المجتمع والأخلاق والهزيمة التي تحرك الجميع من حوله. في قصة لي لي، يستعرض لنا إمام مسجد شاب، في منطقة صغيرة نائية، شهيرة بالفحش والحشيش والموبقات، لكن الشاب الطموح يتطلع لتغيير هذا، ودعوة هؤلاء الضالين للهداية، فكيف يتحول هو إلى ضال تائه لمجرد أن لي لي الشابة الساحرة الغاوية، قد أضاءت نور غرفتها أمام عينيه وهو يؤم الجميع في صلاة الفجر؟
الحقيقة أن إدريس لا يسخر هنا من التدين أو رجل الدين كما يعتقد البعض، القصة كلها إسقاط على المجتمع وانهزاميته في ذلك الوقت، فهو هنا يسخر من البشر الذين ظلوا ساجدين ساعة حتى نام أغلبهم إرهاقاً، منتظرين تكبيرة الإمام الذي تركهم ورحل، دون أن يجرؤ أي أحد أن يسترق نظرة، منتظراً أن يقوم شخص آخر غيره بتحرك إيجابي لإنهاء الوضع..
كما يسخر من الضعف البشري، وهزيمة الإمام الشاب أمام الشيطانالعدو (لي لي) لمجرد أنها أضاءت النور وكشفت رغباته الحقيقية التي يداريها بثوب الورع، وليلقي عليها باللوم متسائلاً، أكان لابد يا لي لي أن تضيئي النور؟ وكأنها هي المذنبة في هزيمته وليس ضعفه الشخصي. كما يقلب الأدوار عندما يطرق الضالون بيت الله فجأة فجر يوم للصلاة، في حين يتركهم الإمام ويذهب ليطرق باب غانية.
إلى اليوم، يستخدم عنوان هذه القصة المذهلة الصادمة كنوع من المواراة عن كشف الحقائق وتعريتها، هذه عبقرية إدريس إذن، قصصه التي كتبت منذ عشرات السنين، قابلة للإحياء والتجدد لأنها لا تسرد وقائع زمنية، بقدر ما تسرد مشاعر إنسانية دائمة ومستمرة، ولهذا توّج يوسف إدريس ملكاً للقصة القصيرة، من الخمسينات وحتى يومنا هذا.