يقولون “المرأة مكانها المطبخ”، نسمعهم يسخرون من الأُنثى حينما يرون منها ما لا يُعجبهم بقولهم “ارجعي للمطبخ”، من باب التقليل من قدرات النساء التي في رأيهم تقتصر على إعداد الطعام، ولا يعرفون أنّهم يُهينون المرأة، ويستهينون بالطبخ أيضًا، ومن الغريب أنّ هذه الأقاويل تصدر من الرجال، الذي يُمثل المطبخ لكثيرٍ منهم، أهم ركن في المنزل.
يسخرون من المرأة الناقصة عقل، ويظنّون أنّه ليس هناك أسهل من تحضير ما لذّ وطاب من الأطعمة والحلويات المختلفة، وهم مُخطئون في كلا الفرضين، ولكن كما يقولون ليس من ذاق كمن عرف.
طبيخ الوحدة
تُقدّم لنا الكاتية “أمنية طلعت” في كتابها “طبيخ الوحدة”، مجموعة من القصص القصيرة، تُشبه قصص النساء في واقعنا المصري والعربي، بما فيه من تحامل على الأنثى، ومحاولة دائمة لكبتها والسيطرة عليها، ولكن في جو سردي دافيء، مُغلّف برائحة أطعمة طازجة وحلويات شهيّة، مازجةً لنا العوطف والانفعالات الشجيّة، مع بهجة إعداد الطعام على اختلاف أنواعه، والذي اختارته أُمنية بعناية، كي يكون ضمن ما يُحبّه أغلبنا.
سنحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على هذا الكتاب، الذي كان واحدًا من أكثر الكتب مبيعًا في عام 2014، وسنتعرف سريعًا على لمحات من القصص العشرة للمجموعة القصصية الفريدة من نوعها.
أُمنية طلعت وطبيخ الوحدة
في البداية دعونا نتعرف على المؤلفة “أمنية طلعت”، هي كاتبة مصرية، درست الصحافة بكليّة الإعلام، وكتبت للعديد من الصحف تحقيقات هامّة في بداية عملها كصحفية، ثم اتجّهت للكتابة الأدبية بعدها، حيث صدر لها حتى الآن خمسة كتب، تتنوع ما بين الروايات والقصص القصيرة، كان أوّلها كتاب “مذكرات دونا كيشوتا” في عام 2003، بينما صدر آخر كتاب لها في عام 2019 بعنوان “اتركيه وانطلقي في الحياة” وكان عبارة عن مجموعة من المقالات التي تخص موضوعها المفضل والذي اشتهرت بكتابتها فيه، وهو الكتابة عن النساء وحقوقهنّ، وعلاقتهنّ بالرجل، وجميع شئون المرأة بشكل عام.
“أن تكوني أنثى في مصر يعني أن تكوني واحدة من اثنتين، إمّا مقهورة ومرضي عنها، أو حرّة ومطرودة ومرفوضة”.
اللغة لدى “أمنية طلعت” في الكتاب نوعان، إمّا لغة شاعرية مليئة بالتفاصيل والصور، ومُغرقة في الوصف فكأنّك ترى وتسمع وتشمّ بالفعل، ولغة عامية أصيلة، بعضها ريفي، وبعضها صعيدي، تدل على أنّ كاتبتها مُتغلغلة في قلب المجتمع المصري، وكثيرًا ما تم المزج بين اللغتين في القصة الواحدة، وهو ما كان له أثرًا أصيلًا غير مفتعل، ولطيفًا جدًا في الواقع.
ماذا فعل الطبخ بالوحدة؟
وصفت الكاتبة كتابها طبيخ الوحدة، بأنّه: “مُتتالية قصصية بطلها أو موضوعها الأساسي الطبخ، كعلاج للفقد والإحساس بالوحدة”. بالفعل سنجد أنّ أمنية طلعت اختارت أن يتمحور كتابها حول (النساء الوحيدات)، حتى وإن كنّ متزوجات مثل قصة “وحدها كانت تطهو الكوسة بالنعناع”، أو لهنّ أبناء مثل “مُعضلة الملوخية”، فهذا لا يمنع أن بطلات القصص كلها، كانوا نساء منعزلات داخل ذواتهنّ، بما فيهنّ الطفلة بطلة قصة “ويكا يا دنيا ويكا”.
وتسير هذه القصص المؤثرة جنبًا إلى جنب مع شرح دقيق في كثيرٍ من الأحيان، لإعداد صنف من أصناف الطعام أو الشراب، متضمنًا الملوخية واللحم والكيك وصينية البطاطس والفطائر المخبوزة والقهوة وغيرها.
دعونا نعترف بأنّ مذاق الأكل ورائحته، يُشكّل جزءًا من كياننا، وأنّ ذكرى الطعام الذي أكلناه لسنواتٍ كثيرة، لا يموت في وجداننا أبدًا، ولكنّ من الطبيعي أن يكون ارتباط الأنثى عامةً بالطعام أقوى، لأنّها هي المسئولة عن إعداده، وهي من تبتكر وصفتها الخاصّة في كثيرٍ من الأحيان، لذا فكل طبخة تطبخها هي اختراع تتفنّن في صنعه من روحها الخالصة، لهذا يبقى أثره طويلًا في نفسها، وفي نفس من تذوقوا حلاوته أيضًا. تقول أمنية طلعت عن الطعام في إحدى القصص:
“يملأ بطوننا ويُذكي أُنوفنا، ويسد فراغات متاهات عقولنا”.
ويُمكننا القول أيضًا، بأنّه يُهدّأ أنين آلام قلوبنا التي تشتكي الحرمان، فهو مُسكّن مؤقت المفعول، ولكنّه ممتاز لآلام الروح، تَصفهُ أمنية مرة أخرى قائلة:
“لم يُنقذني من خيبتي في حبيب الجامعة الذي اتخذّته عشيقًا وزوجًا على مدار خمسة عشر عامًا، سوى المطبخ، داخله امتزج ملح دموعي بملح الطعام، وعلمتني أبخرة الطعام الذكية، كيف أتلذّذ بالكون بعيدًا عن تفاصيل الزوج والأبناء، وقسم الجراحة والأعصاب. مع كل أكلة جديدة أُجيد فن طهيها، أشعر أنّ جبلًا من الهموم انهار داخلي، ومع كل وصفة جديدة أعثر عليها، أشعر بأنّني امتلكت صرحًا أُقيمه بيني وبين الألم”.
هنا يتبادر السؤال.. ماذا فعل الطبخ بالوحدة حقًا؟ لا يُمكن الإجابة على هذا السؤال بدقة إلا بقراءة القصص العشر للكتاب، الذين سنقوم بذكر نبذة عن كلٍ منهم حالًا.
عشر حكايات للبهجة أم للتعاسة؟
أجمل ما في حكايات “أمنية طلعت”، أنّها استطاعت أن تمزج الشجن بالبهجة في قصصها العشر بانسجام جميل، يأتي الشجن من الشعور بالوحدة والفقد والخُذلان، وتأتي البهجة من رائحة القهوة ومذاق الملوخية وحلاوة كيك الشوكولاتة. أحيانًا يطغي أحدهما على الآخر، فتصير القصة مُوجعة بحق كقصة صينية البطاطس، أو تصير القصة مدعاة للرقص والسعادة، كقصة هوس الكعكة.
طبيخ الوحدة
“سآكل مع الزمن، على مائدتي التي تتسع لكل السنين، سأحتفل وإياه ب سنيني”.
معزوفة شجيّة تحكي عن المرأة الوحيدة ذات القلب الخالي، والمنزل الخالي إلا منها، في ليلة صاخبة مُفعمة بأمنيات السعادة كليلة رأس السنة. تساؤلات عديدة عن علاقتنا بالزمن ومروره على أيامنا، تاركًا أثره على أرواحنا، عن الوحدة، عن استعذاب الحزن في أغنية لسه فاكر لأم كلثوم، عن رشوة الزمن بهدية غير متوقعة كي يغضّ الطرف عنّا، عن اللحم بالطماطم والأعشاب والفلفل الحار، الوصفة التي لم تسمع بها قطّ، أو تطبخها قطّ، وعن الرضا الذي أتى أخيرًا، مع أول دقّات ساعة العام الجديد.
ويكا يا دُنيا ويكا
“كنت مُجبرة على الطاعة، حكمة اكتسبتها من مكانٍ ما، لا أدري ممن أو من أين، لكنني جُبّلت على الطاعة منذ نعومة أظافري”.
حكاية فيها من الأسى الكثير، للطفلة ذات التسع سنوات، التي تشتكي من قلة الحنان، كما تشتكي من الجوع القارص، والذي جعلها تُفلت يد الجدة القاسية، كما قسا الزمن على عظامها التي تئنّ، وعلى اتساع صدرها الذي ضاق، فلم يعد يحتمل مشاغبة طبيعية لطفلة صغيرة. فرّت الطفلة من الجدة بلا وعي تقريبًا، قادها الحنين الجارف لرائحة البامية المطهوة بمرق اللحم مع فصوص الثوم والتي يصنعها جار لهم. للأسف لم تجد الطفلة المسكينة بعد موت الأب، وزواج الأم، ملاذًا سوى بيت الجدة العجوز، مسكنًا بلا سكن، وطعامًا بلا طعم.
قرع عسل في كابادوك
“رأيت مار جرجس يعتلي حصانه في السماء الأثيرية أمامي، ويُشير بسهمه نحو الفضاء، لتبزُغ في الأفق قرعتي العسلية بفئرانها المُتحولين، يركضون باتجاهي. رفع مار جرجس يده الأخرى الخالية من السهم مُحييًا، ثم ابتسم لي بود”.
وفيها حكاية مريام التي تعلّقت منذ صغرها بحبها للكنائس والأديرة، وها هي الآن في كابادوك بتركيا، تتسلق الجبال التي صنع منها المسيحيون الأوائل كنائسهم السريّة، بحثًا عن الأمان في حضرة مار جرجس، قديسها الأقرب إلى القلب. مريام التي اشتهت فجأة صينية قرع العسل بالباشميل وجوز الهند، حتى تتمكن من استكمال رحلتها نحو اكتشاف نفسها، وكي تستكين روحها القلقة بالإيمان.
مُعضلة الملوخية
“يعني إيه مش عارفة تعمليها؟ دول شوية مَرجة وشوية ملوخية متخرّطة عليهم حبة ملح وفلفل، وبعدين تطُشّي فيهم تجلية التوم والكسبرة الناشفة، وكان الله بالسرّ عليم.
وما هو هذا السر يا ستّ ماما؟ تُجيبُني: ابجي اشهجي بذمّة انتي بس”.
قصة قصيرة مليئة بالتفاصيل الممتعة، عن جرّاحة المخ والأعصاب البارعة التي أنقذتها متعة الطبخ من زواج تعيس، والتي لم تهزمها وصفة طعام أبدًا كما فعلت الملوخية. وهي نفسها الأم المُشتّتة بين أصلها الريفي الذي لا يعترف بكونها امرأة حقيقية، مادامت لا تُجيد طبخ الملوخية، وبين نجاحها العملي كطبيبة في تخصص نادر بين أطباء الجراحة، والذي لم يشفع لها عند زوجها، كي يكتفي بها كامرأة. أسئلة كثيرة سألتها لنفسها، والغريب أنّ الإجابات كلها لم تعد مهمة، بعدما ظهر طبق الملوخية المظبوط بالمللي أخيرًا.
هوس الكعكة
“تطغى حلاوة الشيكولاتة على ملح دموعها الذي عشّش على خلايا لسانها، ثم تُطلق آهة تكون بمثابة الطلقة الأولى للميلاد”.
من جديد المرأة الوحيدة ذات ال 35 عامًا في يومٍ مميز آخر، في عيد ميلادها، حينما بلغت الأحزان منها مبلغًا لا يحتمل احتفالًا أو صحبة، اختارت هذه المرأة أن تبقى بصحبة الوحدة والظلام ودفء السرير كي تتجنب أن تحيا ذلك اليوم البائس من عمرها، ولكنّ كان لصديقاتها رأي آخر، فقد اقتحمن خلوتها ببيضٍ ودقيق وشوكولاتة وكرز أحمر، عازمات على أن يصنعن كعكة عيد ميلاد، وتحول اليوم إلى وصلة من الرقص والغناء والضحك وبعض من البكاء أيضًا، وحدث كل ذلك بينما كانت رائحة كعكة الشوكولاتة الذكية تنبعث من الفرن.
صينية بطاطس كانت تجمعنا
“مع مطلع كل أسبوع تُفكّر في قائمة الطعام التي ستعدّها، حتى إذا ما فاجأها الأولاد بزيارة، يجد ما يأكله، تُردّد: بيت أبوهم لازم يفضل عمران، وأكل زوجاتهم لا يُمكن يغنيهم عن أكلي، حتى حنان بتحب طبيخي أكثر من طبيخها.. أكل الأم لا يُعلى عليه. الله يرحمك يا أمّي كان عليكي صينية بطاطس، عمري ما طبخت واحدة في جمالها”.
من أعذب القصص، وأكثرها شجنًا، قصة المرأة التي مات زوجها وتزوج جميع أبناءها، فبقيت وحيدة، لا تملك إلّا ذكريات “اللمّة” في البيت الضيق والذي كان صاخبًا بأربعة أبناء، مضى كل منهم في طريقه الآن، وأصبح له بيته الخاص، وبقيت الأم في حالة انتظار مستمرة، عسى أن يأتي أحدهم على غفلة. الأم التي قرّرت اغراء أبنائها بالحضور عن طريق طبخ صينية البطاطس باللحم المُفضلة لديهم، والتي ليس لها مثيل. طبختها خصيصًا من أجل أن يلتفّوا حولها كما كانوا يفعلون يومًا ما. قصة من قلب الواقع، ومفرداتها التي فيها الكثير من العامّية المصرية تحمل الكثير من الصدق، والدفء المُنبعث من تلك الأيام العزيزة على القلب.
ببرونة لأدهم
“كان أدهم هو الاستثناء، الاستثناء من الذكور، الاستثناء من الألم، الاستثناء من الغضب، الاستثناء من الحزن، الاستثناء من الصدمة، الاستثناء من العتاب. كان هو الصدفة التي أقامت عليها كونها”.
حتى أدهم الطفل الرضيع، توجد من أجله طقوس خاصة لتحضير ببرونة اللبن الخاصة به، التي يضحك لمرآها، ويهنأ بالدفء والشبع بعدما يتناولها. وهي وجبة الرضيع الوحيدة التي تُعدّها له أمّه بكل حب، فهو المعجزة الصغيرة التي جائت بعد يقين الكُفر بالرجال، واليأس في الشعور بمتعة الحياة عمومًا. جاء أدهم إلى الدنيا، وأصبح هو الحياة ذاتها، وصار إعداد ببرونة اللبن الخاصة به، بمراحلها المتعددة من التعقيم، إلى تحضير المقدار المظبوط بالمليمتر، إلى تدفئة اللبن قبل شربه، أجمل ما بالحياة.
فنجان من القهوة
– علموني في المركز الصحّي أن أقبل حياتي بما هي عليه، ولا أحاول التمرد عليها.
– وماذا لو تمرّدت؟
– سأعود إلى الإدمان مرة أخرى.
– إذا نحن محاصرون بين التمرد أو الإدمان؟ إذًا حياتنا عبث، بلا قيمة حقيقية.
وفيها حديث من القلب بين أولاد العم المنبوذان من العائلة، هو لإدمانه، وهي لحبها للعمل وللاستقلال بعيدًا عن العائلة المتحجّرة الأفكار، لا يقطع حديثهما ذلك سوى محاولات لعمل فنجان من القهوة بوجه سميك لشخصين، قررا الانعزال عن العالم. لم يجمعهما الحب، جمعتهما الوحدة والتمّرد. انغمسا في شرب القهوة، بينما يحاولان عبثًا الإجابة على أسئلة، يعلمان جيدًا أنّها بلا إجابة.
عجين الصبر
“تبتسم أكثر وهي تتذكر قول أحد الحكماء بأنّ الألم يرقد دائمًا خلف العبقرية، فتتمنى داخلها أن تستيقظ ذات يوم لتجد نفسها غبية تمامًا”.
عن الانتظار الطويل، عن الحاجة لحضن الأب وحنان الحبيب، عن التآلف مع الوحدة، وعن الأمل الذي لا يغيب. البنت وأمها وحيدتان، تعيشان حالة مستمرة من الانتظار، اعتادا خبز فطائر الينسون والكمّون، التي تتطلب مثلها مثل أي عجين قدرًا من الصبر، يصنعانها كل يوم في نفس التوقيت، وكأنّهما يُجدّدان يوميًا عهدهما مع الصبر، وبرغم الخذلان المستمر ، لم تقطع الفتاة التي صارت امرأة الآن، عهدها مع العجين.
وحدها كانت تطهو الكوسة بالنعناع
“لم يندمل الجرح أبدُا في قلبها، وأخذت تنزوي وتنزوي حتى انعزلت في أقصى ركن لروحها، وما بقى منها لم يكن سوى عادات استمرت في أدائها لجميع من حولها، دونما بسمة حقيقية، وعين موّرقة بأخضرها”.
وصف رقيق للمرأة الرفيعة الذوق ذات العيون الخضراء، والتي تحمل في قلبها جرحًا لا تُبديه لأحد، وشرح تفصيلي لوصفة الكوسة بصلصة الطماطم والنعناع، الوصفة الغير تقليدية للمرأة الغير تقليدية، التي أوصت أن تُدفن حينما تموت بجوار أبوها، لا بجوار زوجها الذي تعشقه، ولهذا سبب مخفي بأعماقها.
في النهاية، رأينا كيف دخلت “أمنية طلعت” المطبخ كأي امرأة عادية، وأطلعتنا على وصفات خاصة وأسرار ناجحة، للعديد من الأطعمة والحلويات، ولكنّها حينما خرجت منه، غادرته بقصص غاية في العذوبة، أطلعتنا فيها على حكايات لنساء وحيدات، خذلهنّ الرجل، وضاقت عليهم الحياة، وأنقذهنّ المطبخ، والمطبخ هنا في قصص أمنية بمعناه الواسع، هو الشغف لأيٍ منّا، لذا ليس من الغريب أنّ الكثير من النساء حينما تتبّع شغفها في الحياة، تجد قدماها قادتها إلى المطبخ، حيث الابتكار، والمزج، والتشكيل، وإضفاء النكهة واللون، للوصول إلى الشكل النهائي، وحينها تستلم كل امرأة جائزتها الثمينة، طبقها المفضّل الذي يحمل قطعة من روحها.