في كتابها «صندوق الأربعين» تقدّم الروائية الكويتية ميس خالد العثمان سردًا ذاتيًا خاصًا لرحلتها وحياتها على مشارف الأربعين» ذلك العمر الفارق في حياة كل إنسان ومبدع، وتمزج بين سيرتها الذاتية وأحداث حياتها الخاصة، وبين علاقتها بالكتابة كما عاشتها وكيف تكوّن وعيها الأدبي والثقافي والفكري من خلالها، منذ سنوات الطفولة والتكوين الأولى، وحتى أصبحت روائية داخل هذا الوسط الثقافي المليء بالمبدعين الحقيقيين والأدعياء جنبًا إلى جنب.
تحكي ميس العثمان في سردٍ شفيف وشيق علاقتها بالكتابة والكلمات كيف بدأت وتشكّلت منذ البداية حينما أنصتت مبكرًا لحكايات الجدات حتى تحولت إلى تلك الطفلة الشقية التي لا ترضخ بسهولة لمقولات الكبار، بل وتسعى لإعمال عقلها وتفكيرها في كل ما يصلها من أفكار ومعلومات وأخبار، فلا تخجل من سؤال معلمتها «لماذا لا توجد إلهة أنثى؟»، حتى تكبر في الثانوية وتقلب الطاولة على معلمتها لشعورها بالظلم، وكيف جعلها ذلك تدرك منذ وقت مبكر أن الحق يخيف الظالم، وكأنها كانت منذورة منذ نعومة أظافرها لمواجهة العالم وخلخلة ما تراكم عليه من جهلٍ واستسلامٍ للموروث والمتعارف عليه، ساعيةً دومًا إلى البحث عن أجوبة لأسئلتها الخاصة حتى لو تم مواجهتها باعتبارها غريبة أو متمردة، بل كان كل ذلك يمنحها المزيد من القوة والإصرار.
نحن جيلٌ مختلف، عاصرنا الطفرة الأولى لأول الخير، بينما راهقنا في عز الألم، ثم انتبهنا لضرورة أن تكون الموازنة هي المسلك الخاص القادم، فهل يعقل أن أستمع/أشاهد تسجيلاً لحفل عبد الحليم حافظ بينما أنا ما أزال في السابعة من عمري، أعيد وأكرر الاستماع بينما يغنّي «أهواك» وأغمض عيني على اللحن الذي سَحرني ولم أعِ الكلام حينها؟ لا أدري إن كانت أمي قد استغربت سلوكي هذا أو انتبهت له أساسًا، لكن البداية التي جعلتنا نصبّح على الأغنيات وفرحها هي من أسست لحب النغم والاختيار بين ما هو حقيقي.. وسطحي.
هكذا ترصد ميس في كتابها، وعبر فقرات متصلة منفصلة، لمحات من سيرتها وحياتها، وهي إذ تفعل ذلك وهي على مشارف الأربعين، ليصادف أن تكون تلك السنوات التي عاشتها (منذ 1977) سنوات شهدت العديد من التحولات والتغيرات والصراعات في بلدها الكويت على وجه التحديد، بل وفي العالم كله.
إذ شهدت أحداث حرب العراق وإيران، ثم احتلال الكويت حينما كانت في طفولتها، وما حدث من طفرة في وسائل الاتصال والتكنولوجيا، حتى انتشار الإنترنت وما صحبه من تغيرات جذرية في الوعي في المجتمعات، وغير ذلك.
وهي بذلك ترصد وتؤرخ وتوثق لمرحلة هامة ومحوريّة في تاريخ العالم العربي من جهة، كما تشتبك بشكل كبير مع عدد من القراء الذين لا شك سيكونون قد عاشوا وسمعوا وتأثروا بتلك الأحداث والتحولات والتغيرات الكبرى، مما يجعل الكتاب ليس فقط مجرد سرد لذكريات وأحداث خاصة بصاحبتها، بل يتسع ليكون كاشفًا كصورة ومرآة لحال المجتمع الكويتي والعربي وحال المثقفين فيه في هذه الفترات.
من جهةٍ أخرى فإن «صندوق الأربعين» ليس مجرد حكي وسرد لشخصيةٍ عادية، بل هي كاتبة وروائية، صدر لها أكثر من عمل، واستطاعت عبر مشوار حياتها القصير نسبيًا أن تكرِّس حضورها كواحدةٍ من أهم الأصوات الأدبية في الساحة الكويتية، رغم عزوفها عن التقدم للجوائز منذ حصلت على جائزة «ليلى العثمان» في الإبداع السردي عن روايتها «عرائس الصوف»، ولهذا تفرد عددًا من فصول كتابها للتتحدث عن علاقتها بالكتابة بشكل خاص، وتعرض أطرافًا لحكاياتها مع كتبها ورواياتها، وتحكي كيف أدركت منذ وقت مبكر أيضًا أن الكلمات هي وسيلتها الوحيدة لكي تمرر ما عرفته وما توصلت إليه للآخرين، وبين الكتابة ومواجهة الناس تعيش حياتها وتسردها.
لكننا نتنفس عبر التدوين والكتابة والسرد، نعيش فعلاً، عبر الصعود على سلم الوعود بإعادة التشريح على طاولات الكتابة والحذف، لا مبالين بمن يحاول سد الممرات علينا.بل إننا دائمًا أمام هذا التجني والفجور والتعدي على حرياتنا الأصيلة من لدن الآخر/المتأخر الواقف خلف التلة البعيدة يصيح في البشر محذرًا منّا، نظل ننتج الأفكار ونتعبّد في قدسية الأسئلة وتفرح بانهمار المزيد من الشك. وإياكم والظن بأنه يمكن للأفكار أن تخنق، هذا هو المستحيل!
تتناول الكاتبة أيضًا في كتابها علاقتها أيضًا بالقراءة والكتب التي شكّلت وعيها، وتلك الأخرى التي فتحت لها أبواب التساؤل والمعرفة في الوقت نفسه، والتي جعلتها قادرة على مواجهة الكثير من المشكلات والتصدي للكثير من العقبات في حياتها بشكل عام، كما تتناول علاقتها بالناس والأصدقاء وطريقة تعاملهم معها وتعاملها معهم، كيف يرون هذه الكاتبة؟ وكيف يريدون منها أن تكون تلك الكتابة من واقع خبراتها الخاصة، حتى تضع لقارئها في النهاية صورة الحياة التي تحب أن تعيشها وكيف أنها يجب أن تكون بالطريقة التي تحب هي لا الطريقة التي يريدها منها الآخرون أيًا كانت توجهاتهم وعلاقتهم بها، هي في النهاية تقدم ما يشبه وصف حالة الكاتب والمثقف في المجتمع العربي في هذا الظرف الراهن المأزوم.
ميس خالد العثمان روائية كويتية تمارس الكتابة الأدبية منذ عام 2001، صدر لها خمس روايات كان آخرها رواية «ثؤلول» الصادرة عام 2015 عن دار العين، والتي تناولت فيها مأساة احتلال العراق للكويت وما جرى فيها من أحداث مأساوية، كما صدر لها من قبل كتاب في السرد الذاتي بعنوان «أفتح قوسًا وأغلقه»، كما كتبت «أشياؤها الصغيرة» قصص قصيرة صادرة عام 2003 و«عبث» عام 2001. حصلت روايتها «عرائس الصوف» على جائزة ليلى العثمان للإبداع السردي عام 2006.