رواية صليب موسى للكاتب هيثم دبور

رواية صليب موسى والكتابة بالتاريخ

“حتى في موته.. يفكر الإنسان في تاريخه.. وما سيتركه للتاريخ”

يقرأ الجميع التاريخ لأهداف مختلفة، فالسياسي مثلًا يحاول تدعيم آرائه أو اكتساب معرفة تعينه على التخطيط للمستقبل وتجنب أخطاء الماضي، قراءة برجماتية بحتة، والباحث العلمي يحاول معرفة ما تم بحثه ليبدأ من حيث انتهى الآخرون، أما الكاتب فيقرأ التاريخ ليسد له فراغات درامية في الحياة الواقعية، أو يمده بتصورات درامية جديدة نتيجة خطوط بيانية شديدة الدقة بين الأحداث والأشخاص والتصرفات المختلفة في المواقف اللانهائية، ما يمثل كنزًا حقيقيًا يعاد إنتاجه أدبيًا بعملة الحاضر.

ظهور الآخرين في حياة الآخرين هو التاريخ، هو جوهر تقاطعات الزمن على الأرض، جوهر نظرية التدافع، (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض)، أو ما يعرف حديثا باسم “أثر الفراشة“، رسول الوالي وقبر الجيلاني، موت الجبالي في المضيق الذي مات فيه “بالمر”، عمل الفتاة الإسرائيلية في مكان أنشأه قائد والدها بالتبني.

بمجرد دخول الشخصية التاريخية حرم الرواية تجردت من الواقعية، وأصبحت مجرد حامل لسمات معروفة مسبقًا، لكنها تتحرك في الأحداث وتحرك الأحداث وفق منطق جديد، فسمات السامري معروفة للجميع، لكن دخوله الرواية صنع حدثًا استمر حتى نهايتها، إذًا في هذه الحالة أعيد إنتاجه مرة أخرى، بمعنى أبسط لم يعد هو سامري بني إسرائيل، ولكنه في الرواية “من المفترض أن يكون هو سامري بني إسرائيل”، وهذا فارق دقيق جدًا يتعذر على البعض أن يفصل بينه وبين الشخصية في الحقيقة، إلا إذا أدرك أن الكتابة بالتاريخ غير الكتابة للتاريخ غير الكتابة عن التاريخ.


السامري هو أصل الحكاية، أو بمعنى أدق هو أصل خيال الحكاية، هذا الخيال الذي طارده كل شخوص الرواية في مختلف الأزمنة، والذي يتحول ليصبح السر عند الرهبان والكهنة، ورمز القوة عند الحكام والقادة والمؤرخين، والإجابة التي يطاردها طلاب العلم، والقدر الذي يهبط على شخص عادي ليتحول إلى بطل ينتصر للحق ويتغلب على مخاوفه، فسِر تراب السامري، الذي هو خيال الحكاية، هو سر كشف وتعرية، هو سر استخراج مكنون النفس البشرية الحقيقي، هو سر اختبار المعادن، كل ذلك مصهور بترتيب وحبكة دقيقة منسوجة بعناية، حتى تلتقي وتتقاطع الخيوط لتشكل شبكة العلاقات النهائية، مخبأة خلفية لوحة سردية قوية.

كما مثّل أيضًا كتاب “سلم السماء” للقديس يوحنا الدرجي (السلمي) في الرواية المعادل الموضوعي لجوهر الدين عبر التاريخ، فأغلب أبطال الرواية رأت الكتاب بشكل معين، منهم من تعثر فيه ومنهم من طلبه باللغة العبرية ومنهم من لطخه بالدماء، ومنهم أيضًا من رأى أنه هو طريق الخلاص وجاهد نفسه فيه حق جهاده.

كلمتان ثقيلتان على أبناء الرمزية

“صليب موسى”.. هما أكثر مفردتين محملتين برموز إيمانية وقصص وأساطير وتاريخ من الإيمان والكفر، أكثر مفردتين لا يختلف عليهما مسلم أو مسيحي، مصري أو عبراني، الجنس السامي كله يعرف ما تحمله هاتان المفردتان من استدعاءات تاريخية ودينية وسياسية وثقافية، بل ومستقبلية، من سانت كاترين حتى نهاية العالم.

الصليب هو الحِمل، الوزر الذي يحمله الإنسان على ظهره ويعيش به كما حمل عيسى صليبه وصعد به أعلى تلة الإعدام، فالصليب هو الحمل والخلاص في الوقت ذاته، وموسى هو قائد مصري ربيب الفراعنة، وغلام عبراني اصطفاه الله، ونبي لليهود، وصاحب أول وأكبر بركة دينية تحط في سيناء المصرية، التجلي.

قد يذهب القارئ إلى أبعد من ذلك -وقد لا يعود- في تفسير وتأويل رموز الرواية في ضوء كلمتي العنوان، لذا لا يمكن اعتبار العنوان هنا عتبة للنص، فحتى أستوعب العنوان لا بد أن أقرأ الرواية ثم أحدد زاوية أرى فيها الكلمتين متحققتين طوال صفحات الرواية، فهل يمكن أن نقول إذًا إن الرواية هي عتبة العنوان؟

لو افترضنا أن صليب موسى أي وزره الذي يحمله ويحمله من بعده بني إسرائيل والمصريون، فإن المعركة ستتجه لأولاد العم في المقام الأول، ويعززها الوجود الأمني وأجواء التجسس في الرواية، ولو افترضنا أن الكلمتين ترمزان لإيمان موسى، فهذا يعني امتداد الإيمان من موسى إلى عيسى إلى محمد المتمثل في كل المسلمين المحافظين على دير سانت كاترين من الفتح الإسلامي إلى الآن، كل حسب ما يعتقده، كل حسب إيمانه، ولو افترضنا أن صليب موسى هو موسى السامري وليس موسى ابن عمران، وأن صليب موسى هو مجرد مكان في دير يحوي خبيئة يتصارع الجميع عليها فنحن أمام رواية مغامرة وحركة لا أكثر، وهذا الإطلاق في الإشارات التي صنعها العنوان هو فخ الكاتب لكل من يحاول أن يجزم بتفسير واحد لنصه.

في النهاية، فإن رواية “صليب موسى” للكاتب “هيثم دبور” هي رحلة زمانية مكانية ممتعة، تجول فيها في أروقة التاريخ متلمسًا الأحداث والعبر، وتعود أيضًا إلى بقعة عزيزة من أرض مصر على مر الزمان، سانت كاترين، مهبط الوحي وأرض التجلي وابنة الطبيعة البكر، حصن مصر ومطمع الغزاة، إن كنت رجل أمن أو رجل علم أو رجل دين فأنت تحمل صليب الدفاع عن هذه البقعة المباركة، شئت أم أبيت.