رواية النحال الحلبي الأدب مرآة الواقع
“الأدب هو تمثيل مخادع للحياة، ومع ذلك يساعدنا بشكل أفضل على فهمها، على قيادتنا في المتاهة التي ولدنا فيها، التي نجتازها والتي نموت فيها. إنه يعوضنا عن الخيبات والكبت التي تصفعنا بهما الحياة الحقيقية”.
لم تولد شخصيات رواية “النحال الحلبي” الرئيسية (نوري وزوجته الفنانة عفراء) من العدم. ذاق والدا الكاتبة البريطانية “كريستي لفتيري” من قبل طعم الهجرة والتهجير، وعرفوا بحق معنى اللجوء. كان ذلك أثناء الصراع التركي القبرصي، فهاجرا قسرًا إلى المملكة المتحدة، حيث ولدت الكاتبة ونشأت هناك. حمل والدها هذا الهم، وعلق تمامًا في ذاكرتها. لا تزال تذكر مؤلفة روايتنا تلك كلام جدتها:
“عندما وصل أبي أخيرًا إلى أراضي المملكة المتحدة، لم تتعرف عليه والدتي بسهولة، كانت عيناه كما لو أنها امتلأت بالدم. لا أعلم إن كانت فعلًا عيناه قد امتلأتا بالدم، أم أن أنها رأت شيئًا فيهما لا يفسر ولا يفهم”.
لم تكتف “كريستي لفتيري” بذلك، لكنها أرادت أن تكون جزءًا أكبر في حياة اللاجئين، وأن تحدث فارقًا في مسيرة حياتهم. لذا عملت كمتطوعة في مركز لدعم اللاجئين السوريين والأفغان في اليونان.
“أعلم يقينًا أنه بإمكاني الرجوع إلى لندن في أي وقت أشاء، لكن من قابلتهم من اللاجئين، سيبقون هنا، عالقين في أثينا، لا يعلمون إلى أين سينتهي بهم المطاف”.
هناك، سمعت العديد من القصص عن معاناة اللاجئين، عن أسلوب حياة مختلف تمامًا عما عاشوه، فآثرت أن تخلد أصواتهم وتنقلها من حارات وقرى ومدن مهدمة، متعبة من القصف والكبت، إلى العالم أجمع. استمعت إلى مقولة “يوسا”، وأيقنت بأن الأدب يعوضنا -أو قد يعوضنا- عن الخيبات والكبت التي تصفعنا بهما الحياة الحقيقة، فكانت روية “النحال الحلبي” هي زبدة تلك القصص. وهكذا قالت الكاتبة البريطانية:
“يتمثل دوري بصفتي كاتبة، أن يحاكي الحدث الروائي القارئ، بأن يحل مكان الشخصيات الروائية، أن يصبح هو البطل، أن يحس بما تحس به تلك الشخصيات، أملًا في أن تصل معاناتهم بشكل أوضح
لم تكن هذه المرة الأولى التي تكتب بها الكاتبة “كريستي لفتيري” المتوجه بالجائزة الأدبية، عن موضوع إنساني، وتحديدًا عن الحرب والتهجير واللجوء. فقد صدر لها من قبل رواية “بطيخة وسمكة وإنجيل” والتي تتحدث عن الصراع التركي القبرصي. ربما تسعى “لفتيري” إلى أن تكون صوت الإنسان المتعب من فقدان الوطن والباحث عما يشبه البديل؟
عن رواية النحال الحلبي
تبدأ رواية “النحال الحلبي” بشكل هادئ في سوريا، حيث تعيش عائلة النحال الحلبي نوري في تناغم واضح. تناغم داخلي بين أفراد الأسرة المكونة من نوري النحال وزوجته عفراء وسامي ابنهم العزيز.
وفي هذا الهدوء وهذه السكينة، لن يعكر صفو هذه الأجواء حالة عادية، بل هم بحاجة إلى حالة استثنائية، إلى قنبلة تفجر هذه الأجواء، فتجعل أكبر قطعة فيها أصغر من حلم إنسان بسيط. وهذا ما حصل! تسقط قنبلة لتفتت كل هذه الروابط وكل هذا السكون، فيموت الابن سامي، وتفقد عفراء بصرها، ويفقد نوري السكينة.
الرواية تسير بخطين زمنين: الأول في 2015 حيث تقرر العائلة المحطمة ترك حلب والتوجه إلى المملكة المتحدة، قاصدين بذلك الذهاب إلى مصطفى ابن العم، من خلال العبور بتركيا ثم اليونان. أما الخط الزمني الآخر، فيروي لنا الأحداث بعد سنة، من مدينة في المملكة المتحدة.
وفي خطابها عقب حصولها على جائزة أسبن الأدبية، والذي تم بثه عبر الإنترنت؛ نظرًا للظروف الحالية التي يعشها العالم جراء فايروس كورونا المستجد (كوفيد – 19)، قالت الكاتبة “كريستي لفتيري”:
“تبدأ الرواية بهذه الكلمات: “أخاف من عيني زوجتي” اخترت هذه الكلمات لتكون افتتاحية الرواية لأن هذه الكلمات تحمل في طياتها الكثير من الحقيقة”.
الحكايات تنقل المعاناة بشكلها الفعلي، كما لا تفعل الإحصائيات ولا الأرقام. فالأرقام هي أشياء مجردة من الشعور. يثبت الأدب مرة أخرى أنه قادر على أن يقرب المسافات بين البشر، أن يعزز شعور التواجد بينهم.
الجوائز الأدبية والفائدة العظيمة للقارئ العربي
الجوائز الأدبية كجائزة البوكر العالمية للرواية العربية، ونوبل للآداب وغيرها، هي دائمًا مادة ساخنة جدًا تثير الجدل والنقاش في الوسط الأدبي وأحيانًا كثيرة خارجه. ففوز رواية معينة بجائزة معينة يعمل على تسليط الضوء على الكاتب بشكل كبير، ويضعه تحت المجهر، فيصبح لزامًا عليه تحمل العبء الكبير من النقاد والقراء والصحفيين.
إلا أنني ولو كنت سأختار ميزة واحدة لتلك الجوائز، فهي تعريفنا على كتاب جدد، وبالتالي ستعمل دور النشر العربية بشكل أكبر على ترجمة الجديد والمعاصر. فمثلًا تعرف القارئ العربي على الكاتبة “أولغا توكارتشوك” الفائزة بجائزة نوبل للآداب عن طريق روايتها “رحالة” والتي قامت دار التنوير بترجمتها مع المترجم إيهاب عبد الحميد.
وهنا تحقق ذلك أيضًا، حيث قررت دار الخان، ومقرها الكويت، أن تترجم رواية “النحال الحلبي” للكاتبة البريطانية “كريستي لفتيري” إلى اللغة العربية، عقب حصولها على جائزة أسبن الأدبية، وبذلك ستفتح المكتبة العربية أبوابها مرة أخرى إلى الأدب العالمي المترجم.
لقد نجحت هذه الكتابة بأن تحاكي الواقع، نجحت بأن خطّت تفاصيل قد تكون مهملة للناظر في حياة أي لاجئ (الفقدان والخسارة،) كيف لشخص أن يقتلع عنوة من موطنه، وأن يتأقلم ليعيش ببساطة في مكان غير مكانه، وثقافة غير ثقافته، وأن يحكي بلغة غير لغته، لغة لا تشبهه.
لم تستطع “كريستي لفتيري” إلا أن تحتفظ في ذاكرتها بحكاية عفراء، تلك المرأة التي كانت تعمل في الفن إلى جانب زوجها نوري مُربي النحل في حلب إلى أن حدث ذلك الانفجار الذي قلب حياتهما تمامًا، وأفقدها بصرها وابنها؛ لتبدأ العائلة فصلًا جديدًا من المعاناة في رحلة اللجوء إلى بريطانيا.
كتبت “كريستي لفتيري” رواية “النحال الحلبي” عن الحب والأمل، ولا يخفى من خلال كل سطر فيها ما حملته الكاتبة من تجربة حقيقية عاشتها. كما تمكنت من إظهار قدرة العقل على تبديل الواقع وتمكين الإنسان من التعايش مع كل الظروف القاهرة والمستجدة في واقعه.