حفلت الرواية المصرية بعد نجيب محفوظ بعدد من الأسماء الهامة والبارزة، التي سعت بشكلٍ كبير للانتقال بالكتابة الواقعية من مرحلتها التقليدية العادية إلى فتح آفاق أخرى في الكتابة أكثر تعبيرًا عن تحولات المجتمع من جهة، وأكثر تعبيرًا عن مساحات أخرى من التجريب والقدرات الإبداعية لدى هذا الجيل الجديد من الكتاب والروائيين، بين هؤلاء يبرز اسم الروائي الكبير الراحل إدوار الخراط (1926 – 2015)، الذي لم يتوقف عند حدود الكتابة الإبداعية الروائية فحسب، بل كان له إسهاماته النظرية النقدية الهامة التي عبَّر فيها عن بداية الموجة الأدبية التي لم تكتفِ بالانتقال إلى أفكار ومواضيع مختلفة لم تتناولها الرواية التقليدية، ولكن بداية اقتراح عدد من التقنيات السردية التي عرفها باسم «الحساسية الجديدة» والتي كتب عنها يقول:
تجيء تقنيات الحساسية الجديدة على كسر الترتيب السردي الاطرادي، وفك العقدة التقليدية، والغوص إلى الداخل لا التعلق بالظاهر، تحطيم سلسلة الزمن السائر في خطٍّ مستقيم، تراكب الأفعال: المضارع والماضي والمحتمل معًا، وتهديد بنية اللغة المكرَّسة، ورميها نهائيًّا خارج متاحف القواميس، توسيع دلالة الواقع لكي يعود إليها الحلم والأسطورة والشعر، مساءلة الشكل الاجتماعي القائم … استخدام صيغة (الأنا) لا للتعبير عن العاطفة والشجن، بل لتعرية أغوار الذات وصولًا إلى تلك المنطقة العامضة المشتركة «بين الذاتيات» التي يمكن أن تحل محل الموضوعية.
—الحساسية الجديدة – إدوار الخراط
ورغم ما يبدو عليه التنظير النقدي من جمودٍ وما قد يوحيه من غرابة، فإن الخراط استطاع بالفعل أن يطبِّق حساسية جديدة في عدد من رواياته التي عدت من أهم وأجمل الروايات المصرية الحديثة، بل عدت روايته «رامة والتنين» تحديدًا واحدة من أهم مائة رواية عربية في التاريخ الحديث، كما حصل عنها على جائزة نجيب محفوظ الأدبية في الرواية عام 1999.
المزج بين الأسطوري والواقعي
ربما يكون من الصعب نظريًّا الجمع بين أجواء الأساطير وما تحويها من عوالم خاصة، وبين الحكاية أو السرد الواقعي وما فيه من خصوصية وتفاصيل ثرية، ولكن تجربة الخراط في عددٍ من رواياته أكدت أن هناك من استطاع أن يجمع بين العالمين ببساطة واقتدار.
لم يكن ذلك في رواية أو تجربة واحدة، بل استطاع أن يقدمه في عدد من أعماله الروائية الهامة، لا سيما ثلاثية «رامة والتنين» و«الزمن الآخر»، وكانت آخرهم «يقين العطش» وعلى الرغم من المسافة الزمنية بين كل رواية منهم، فإنها مثَّلت حالة خاصة في السرد الروائي المصري المعاصر.
في «رامة والتنين» نحن إزاء عالم واقعي يتداعى، بطل اسمه ميخائيل يتحدث إلى حبيبته رامة وينسج الكاتب حولهما عالمًا يتداخل فيه عدد من التقنيات والطرق السردية الحديثة، لعل أبرزها تيار الوعي، وهو في الوقت نفسه يجنح إلى عالم الأسطورة، لا سيما من حضور ذلك الاسم في عنوان الرواية «التنين»، والذي يتكشف للقارئ بعد استغراقه في قراءة الراواية إلى أنه يشير إلى قدرة البطل/المحب على الفوز بقلب حبيبته بعد مواجهته للتنين.
في الرواية عزف هادئ جمع فيه الخراط بين تقنية تيار الوعي للتعبير عن حالات أبطال الرواية وعالمهم، وبين التجريب السردي الجديد الذي أسسه له، إذ نجد تماهي حكاية البطل ميخائيل مع صوت الراوي مع أفكار بطلة الرواية رامة وحكايتها، بل تجاوز الأمر حكاية الأبطال لتتحوَّل حكاية رامة وميخائيل إلى تصوير حي لواقع المجتمع المصري في تلك الفترة، وتجربة الحب التي يخوضها القبطي في مجتمع مسلم.
قال لها دون أن يتكلم: يا حبيبتي، نحطم بأيدينا كل بنايات عمرنا، هذه الجدران التي أقمناها، كل منا على حدة، طول السنين، بتضحيات لا أحد يعرف ثمنها ، هذه السجون التي نرتطم بأبوابها الموصدة كل يوم.
حبنا نافذة في الشمس، قطعة ممزقة من سماء الليل الفسيحة.
العلاقات التي تبتر، نظم الحياة التي تتقوض وتنهار.
متاع خفيف وجوهري من الحب والكتب.
قطع أخرى أيضًا من القلوب تمزق وتترك وراءنا.
موسيقى التوقع والتشوف.
قالت: الجزائر تذكرني بالإسكندرية.
هل تعرف، سآخذك معي إلى الإسكندرية، أليست بلدة حبيبتك؟ وأغرقك بالبحر؟
—رامة والتنين – إدوار الخراط
استكمل الخراط حكاية ميخائيل في رواياتٍ تالية لرامة والتنين هي «الزمن الآخر» التي تتضافر فيها الحكاية الواقعية مع التناص الأسطوري، حيث نجد حديثًا عن «شجرة المعرفة»، وتمثيلًا لقصة الخلق في العلاقة بين ميخائيل وحبيبته.
كما أتبع هاتين الروايتين برواية «يقين العطش» التي عرض فيها تحليلًا أدبيًّا للعلاقات الإنسانية، وأسئلة الوجود والمصير من خلال علاقة البطل بمحبوبته ومساءلته لوطنه وما يلقاه فيه من قمعٍ وظلم واضطهاد.
ولعل أكثر ما يلفت نظر القارئ في كتابة الخراط هو تلك اللغة الشاعرية الخاصة التي يقوم عليها السرد بشكلٍ كبير، سواء كان ذلك في المواقف والأحداث الرومانسية التي تدور بين بطل قصته وحبيبته، أو حتى في عرضه لمواقفه وحالته مع المجتمع وإشكالات تعامله معه، ولم يكن ذلك خاصًّا بتلك الثلاثية، بل كان أسلوبًا وبصمة خاصة لكتابة إدوار الخراط في أغلب أعماله وكتابته الأدبية، التي لم تقتصر على الروايات، وإنما شملت أيضًا المجموعات القصصية المميزة مثل «حيطان عالية» و«اختناقات العشق والصباح» و«مضارب الأهواء» وغيرها. كما نجد لديه طاقة من الغضب والسخط على الأوضاع الاجتماعية التي يغرق فيها المصريون، ورغبة عارمة في الثورة، ظهر ذلك بشكل كبير في روايته «طريق النسر» التي رصد فيها طرفًا من التاريخ المصري الحديث وبداية الثورة ضد الاحتلال الإنجليزي في الإسكندرية، بل كان رصد مظاهر الاستبداد والظلم سمة واضحة في أغلب أعماله الأدبية.
نحن الغارقون في القهر المتزين بأطمار خَلِقَة، نحن الذين، برغمنا أو طوعًا وقرارًا منا في دخيلتنا، ننشق دخان جبل القمامة المحترق المتصاعد من صناديق الشوارع وصناديق التاريخ، يلوِّث بيوتنا وقلوبنا، نحن الذين يرقبوننا ويسرقوننا ويكذبون علينا ويخوِّفوننا، ويجعلون نفوسنا وساحاتنا وحاراتنا قفرًا وخرابًا، نحن المحاصَرون الصامتون الذين نجري ونقف في الزحمة صفوفًا بذيئة، وراء اللقمة واللحمة، نضرب بأيدينا المتقبِّضة في الظلام، ثم نترك أيدينا تسقط، نحن الذين تنقض فوق رءوسنا الأنقاض، وتحترق بنا القطارات وتنقصف السيارات، وتنقلب المراكب في مياه النيل اللامبالي العميق.
سوف تقول له: البلد راحت تحت أقدام الكلاب.
وسوف يحس الغضب والإهانة، له وعلى الأكثر لها، هي، ولن يعرف أبدًا إن كان في الغضب شُبهة إنقاذ أو شُبهة يأس.
—الزمن الآخر، 1985
كان لإدوار الخراط جهد كبير في ممارسة النقد الأدبي، لم يقتصر الأمر على ما وضعه في كتابه «الحساسية الجديدة»، بل بدأ يرصد ويبشِّر أيضًا بنوعٍ جديد من الكتابة هو «الكتابة عبر النوعية» التي ناقش وحلل فيها ظاهرة القصة القصيدة، ورصد فكرة تداخل الأنواع الأدبية، وما يمكن أن يستفيد فيه الكتاب من الموسيقى والسينما والفنون التشكيلية في كتابة الأدب، وقدَّم مقاربات نقدية شديدة الخصوصية والتميز، كذلك القصة والحداثة الذي قدَّم فيه عددًا من الأسماء الهامة في الأدب المصري المعاصر .
كما كان له إسهامات عديدة في الترجمة، ربما لم تحظَ بالكثير من الانتشار بين القراء، فقد ترجم رواية «الحرب والسلام لتولستوي»، كما قدَّم عددًا من الأعمال القصصية الأجنبية المترجمة في مجموعات حملت عنوان «شهر العسل المر» وفيها قصص إيطالية، ومجموعة «الرؤى والأقنعة» التي ضمت أعمالاً لفوكنر وبيكيت وروب جرييه، و«الغجرية والفارس» قصص من رومانيا، كما ترجم عددًا من الدراسات الاجتماعية مثل «الوجه الآخر لأمريكا» لهارنجتون، و«تشريح جثة الاستعمار» لجي دي بوشير، وغيرها من الترجمات المهمة، كما أصدر كتابًا في السيرة الذاتية أسماه «مواجهة المستحيل ومجالدة المستحيل»، صدر عن دار البستاني عام 2005.
كما ساهم الخراط بتجارب عديدة مع الفن التشكيلي أيضًا، رصد بعضًا منها في كتابه «في نور آخر» الصادر عام 2006، وفيه يتناول إدوار الخراط الظاهرة السيريالية في الفن التشكيلي المصري والعالمي معًا، كاشفًا عن آفاق جديدة في علاقة تيارات الحداثة الغربية بالتراث المصري والعربي، على حد سواء، وكيف قامت مجموعة من الفنانين المصريين أمثال رمسيس يونان وأحمد مرسي وفؤاد كامل وغيرهم بتطوير الرسوم الشعبية المصرية، واستنطاق العناصر الحداثية الكامنة في تفاصيله الدقيقة، لإنتاج سيريالية مغايرة للسيريالية الفرنسية، سيريالية قادرة على إعاده قراءة الواقع المصري من خلال اللاوعي الجمعي.
حصل إدوار الخراط على عدد من الجوائز، خاصة في نهاية حياته الحافلة بالنقد والإبداع، حيث حاز جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1999 عن رواية رامة والتنين، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب في العام نفسه، كما فاز بجائزة ملتقى الرواية العربية الرابع بالقاهرة في فبراير 2008.
وكان آخرهم حصوله على جائزة النيل في الآداب قبيل وفاته عام 2014.
توفي في ديسمبر 2015.