رفعت إسماعيل وما قبله
عندما أضرب مثالًا لأفضل استغلال لهيكل المسلسل الفني المختلف تمامًا عن هيكل الفيلم ومميزاته، أتخير من أعمال في مقدمتها هذه الثلاثة: The Wire وLine of Duty وDexter. فإنك إن تشأ التمتع بمسلسل -خاصة إذا كنت اعتدت على الأفلام- يتوجب عليك أولًا أن تفهم عمليته ومقصده ومواضع قوته فلا تنتظر منه ما تنتظر من غيره.
فالمسلسل بناءٌ أساسه الشخصيات وتطورها، وتنويعها وتعميقها وضخ كل الدماء الممكنة في عروقها، واستعمالها لتسيير الحبكات وحمل المواقف والتعبير عن الأفكار وصياغة القصص، وكل هذا لغاية هي خلق حبل متين من الألفة يبدأ عند الشخصية وينتهي بيد المتلقي، ولا يتطلب بالضرورة أن تكون محبوبة أو صالحة أو ظريفة أو واقعية. لأجل هذا فإن ما يحدد إمكانيات الكتَّاب الحقيقية والمستوى الواقعي الذي تحتمله قصة مسلسل وأجوائه هو الموسم الثاني بالذات، ففيه نكون قد انتهينا من التعريف بالشخصيات وتقديم الفكرة الرئيسية والتمهيد للتغيرات، وفرغنا للسحر الأساسي الذي لا يوفره الفيلم مهما علا: الحفاظ على السياق الأصلي مع تفادي النمط.
كيف تواصل الإنتاج جامعًا بين هذين اللذين يتناقضان ظاهريًّا؛ أعني الحفاظ على الأصل والخروج عنه؛ التمسك بما كان والابتعاد عنه قدر المستطاع أيضًا؟ هذه هي معضلة الكتابة المسلسلة، والتي تحتاج -قبل الاستمرارية والابتكار والمثابرة وشجاعة إغضاب المتلقي والإحاطة بمجمل التسلسل بالربط المحكم بين مفرداته مهما تباعدت- إلى أساس قوي قادر على حمل أدوار متتابعة من الإبداع.
في Line of Duty مثلًا (وسوف أحاول ألا أسهب لأنك على الأرجح تتساءل الآن عن علاقة هذا برفعت إسماعيل) تلقى تجربة كتابية لا أحسبها تكررت في الأعوام العشرين الأخيرة غير مرتين أو ثلاث. فهو على دراية كاملة بالنمط وقادر على أن يركِّب عليه حكايات تثير الاهتمام ولا تخرج عنه أو تنافي مقصده. حتى إنني أذكر تردد ذاك السؤال المقدس في ذهني مع بداية كل موسم، وقد تشبعت بالقالب وأمست نفسي متعطشة إلى مزيد من تطبيقاته المبتكرة: ما الذي سيحدث هذه المرة؟ أي شخصيات سنلقى وأي تفاعلات بينها ستجري وأي حكايات ستتشكل وأي مفاجآت ستنكشف وإلى أي نهايات ستقود؟
ومصباحه السحري
ينطبق هذا المقيل على سلسلة رفعت إسماعيل المسماة ما وراء الطبيعة، وهذا السؤال المذكور ملازم لمبدأ كل رواية من رواياته حيث تمر عينا القارئ على مقدمته الواضح فيها جدًّا (بحكم ملل الكاتب والشخصية) إدراكه لمسألة النمط التي أشرنا إليها، وحرصه لا على محاربته أو إنكاره أو الاستسلام له، بل التعايش معه وإبراز وجوده وجعله -في جزء باهر من عملية التواصل المثمرة مع القارئ- مشكلة مشتركة بينهما: “هل تلاحظ موضع الإملال؟ أنا أيضًا ألاحظه. هل يزعجك أنه جزء من طبيعة الحياة بل وأكثر صورها تحررًا الخلق؟ كذا أنا منزعج. هل ستتجاوز عن نهمي للإبداع؟ فسأتجاوز عن نهمك لالتهام ما أبدع”. هذا هو ما يلخصه القراء عادة بقولهم إن رفعت إسماعيل يعبر عنهم.
لكن لماذا نتوقف هنا؟ إن التنويع على النمط الواحد وتجديد القالب الراسخ علامة مميزة للسلسلة التي يتصدرها العجوز الثرثار الذي لا يكف عن سحب الدخان ونفثه، بل أصفه بما هو أكثر فأقول إنه مجال إجادته وفرصة استعراض قدراته وإبداء مهارته من الجوانب كلها. هل تريد أساليب سرد متنوعة؟ معلومات في مجالات شتى؟ شخصيات ثلاثية الأبعاد قابلة لإعادة القراءة والاستكشاف؟ محتوى سهل الاقتباس ليس فيه وعظ أو تمييع للشخصيات لمواءمة مزاجات القارئ ومعتقداته؟ سخرية يسيرة الهضم؟ خفة ظل؟ ملاحظات اجتماعية ثاقبة تخلو من التعالي والنبر الإصلاحي الأبوي ولا تعتذر أو تماطل أو تتخفى مع ذلك؟ تضامنًا وانتصارًا للشخصية الانطوائية المعرضة لتنمر منهجي دائم من الانبساطيين الأوغاد الذين يحكمون العالم حرفيًّا؟
لا جرم أنك إذ تعصر هذا المصباح السحري نسيت أن تطلب حكايات مسلية، لكنه سيعطيكها كذلك. وبين حين وآخر سيمنحك من الرعب ما ترتجف له أحشاؤك. ثم سيحدثك بحكمته الساخطة عن الحب قليلًا يغدو مع تطاول السلسلة كثيرًا. ثم ستقرأ عشرين عددًا تجد نفسك بعدها راضية متطلعة لمزيد متاح لك منه ثلاثة أضعاف ما شربت. ثم سيمتنع مؤقتًا عن الحديث مفسحًا المجال لحكايات غيره كثلاثية إيجور الجميلة وثنائية الجاثوم المفزعة وغيرها، مؤكدًا على انطباع الموسوعة الذي لا ينفك يتضح. ثم ستروقه الأكوان الموازية فيستعمل قوالبها ثلاث مرات بعد الأولى.
ثم لأنه نادر الموهبة (رفعت إسماعيل أو خالد توفيق، اختر) عظيم البراعة يجر وراءه من الأفكار أكثر مما يحتمل إنسان، ويسعى لإصلاح أرض تحتاج بعده إلى جيش كامل، ويملك جمهورًا لا يدنو من إخلاصه البالغ عنان السماء سوى تطلبه ولا يميزه شيء كتعطشه للرمز والشبيه والمتفهم والتواطؤ على انتماء؛ لأجل هذا كله يصدر مثل الذي تصدره آلة عاجزة عن التوقف، ويتخير كتيبًا في نهاية كل عشرة يجمع فيه حفنة حكايات مؤكدة على تفرده وأهليته للموقع الذي شغل.
ثم ستزداد الروايات طولًا وستقل الأعداد السنوية لأن “العدد في اللمون” -كما قال- وهو كاتب، ويومئذ سيتسنى لنا أن نراه يأخذ نفسًا عميقًا ويصف؛ أن يمارس ما مارسه لسنوات باسترخاء وهدوء لعلهما أثر تقدمه في العمر والكتابة. سيجيب كثيرًا من القراء ويناقش كثيرًا من الأفكار العلمية والماورائية والفلسفية والأخلاقية. سيكتب أحيانًا على عجل وسيخطئ هدفه مرة كل بضع مرات، وسيتأثر سلبًا بكثرة الإنتاج وتعدد جهات الإبداع وطبيعة التسلسل وحجم الحكايات وتنامي نقد القارئ ورغباته وتناقص الأفكار والشخصيات والقصص والكلمات والآراء.