بعض الكتب لا نستطيع إلا أن نحدث الآخرين عنها، ليذوقوا بدورهم جمال ما ورد فيها، “رحلة جبلية رحلة صعبة” السيرة الذاتية للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان إحدى هذه الكتب التي تحبس أنفاس قارئها، تبكيه، تضحكه وتثير تساؤلاته.
يقول الشاعر سميح القاسم في مقدمة الكتاب:
“لسنا هنا إزاء مجرد سيرة ذاتية أخرى، فرحلة فدوى طوقان الجبلية، رحلتها الصعبة حقًا لم تكن مجرد حياة أخرى. إنها نقيض العادي. وهي شاهد ثقة على الانشطار الهائل بين الحلم الجامح من جهة والواقع المعقد من جهة أخرى”
محطات قاسية وحوادث ماضية لا يتوقعها من اكتفى بقراءة أشعار فدوى طوقان، أبقت بداخلها مشاعر مؤلمة ظلت تكابدها وتحس بلوعة مذاقها حتى آخر عمرها. منها صراعها مع مرض الملاريا، وقلة الاهتمام العائلي، وفقدها لأقرب الناس إلى قلبها.
من هي فدوى طوقان؟
فدوى طوقان
ولدت الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان في مدينة نابلس عام 1917، في ذلك العام تم احتلال باقي فلسطين من قبل القوات البريطانية، وألقى الإنجليز القبض على والدها ونفوه إلى مصر، ومع محاولات أمها المتكررة لإجهاضها من قبل وما تلا ذلك من قلة الاهتمام بوجودها كونها الابنة السابعة لأسرة من عشرة أبناء، تولد لدى الكاتبة إحساس بأنها دخيلة على هذه العائلة وفي أحيان كثيرة ذكرت بأنها كانت تشعر وكأنها جلبت النحس إلى عائلتها.
“كثيرًا ما سمعت أمي تذكر طرائف ونوادر عن طفولة إخوتي مما كان يثيرنا نحن الصغار فنضحك، وكنت انتظر دائمًا أن تروي شيئًا عن طفولتي، نادرة مثلًا، أو حادثة طريفة طرافة الحوادث التي ترويها عنهم، ولكن دوري الذي كنت انتظره لم يكن ليأتي قط، فأبادرها بالسؤال بلهفة طفولية: احكي لنا يا أمي شيئًا عني، ماذا كنت أفعل؟ وماذا أقول؟ بالله احكي، ولكنها لم تكن لتبل غليلي ولو بذكر طرفة تافهة. وأنكمش في داخلي، وأحس بلا شيئيتي: إنني لا شيء، وليس لي مكان في ذاكرتها”
كانت هناك تقاليد صارمة تتبعها أكثر العائلات العربية في ذلك الوقت، أسوأ هذه التقاليد هو تهميش دور المرأة واضطهادها، وفي عبارة ساخرة لوصف التبعية والجو العائلي الذي يسيطر عليه الرجل تقول طوقان:
“كان على المرأة أن تنسى وجود لفظة لا في اللغة، إلا حين شهادة “لا إله إلا الله” في وضوئها وصلاتها، أما نعم فهي اللفظة الببغاوية التي تتلقنها منذ الرضاع، لتصبح فيما بعد كلمة صمغية ملتصقة على شفتيها مدى حياتها كلها”
“المدرسة الفاطمية” والمدرسة العائشية” كانتا المدرستين الوحيدتين في نابلس آنذاك، وكان أعلى صف فيهما هو الصف الخامس الابتدائي، في المدرسة الفاطمية أمضت طوقان السنوات الثلاث الأولى، وبعدها انتقلت إلى المدرسة العائشية، وتصف لنا هذه المرحلة بأنها أفضل مراحل طفولتها.
في بداية مرحلة الصبا منعت الشاعرة من استكمال تعليمها، وأصدر عليها حكم بالإقامة الجبرية في البيت من قبل أخيها الذي وشى له أحدهم بأن صبيًا مراهقًا أهدى أخته زهرة فل، ومن الحبس المنزلي إلى نظرات العائلة المتشككة ومعاملتهم المتحفظة معها انزرع في داخلها فكرة سيئة عن ذاتها، فتخبرنا في أحد الفصول بأن هذه القسوة في التعامل خلقت لديها عادة السير مطأطئة الرأس وعدم الجرأة على رفع عينيها نحو الوجوه التي تلقاها صباحًا مساء بالعبوس والكراهية.
فدوى طوقان، شاعرة أخت شاعر، وهي من أهم شعراء الأرض المحتلة وأدباؤها في القرن العشرين، قال عنها الراحل محمود درويش بأنها أم الشعر الفلسطيني وشاعرة المقاومة الفلسطينية.
دور ابراهيم طوقان في حياتها
في يوليو عام 1929، عاد الشاعر ابراهيم طوقان من بيروت يحمل شهادته من الجامعة الأمريكية في بيروت واستقر في نابلس للتدريس في مدرسة النجاح الوطنية، كان أخًا حانيًا عطوفًا واسع الأفق، تصفه لنا فدوى بأنه ينبوع حب وحنان، يغدق على أسرته من عطائه، ويمنحهم من وقته ومساعدته إذا لزم الأمر.
في تلك الفترة القاسية من سنوات مراهقتها كانت يد ابراهيم هي حبل السلامة الذي تدلى وانتشل شاعرتنا من بئر نفسها الموحشة، إذ لاحظ حبها لكتابة الشعر فعلمها كيف يكون نظم الأبيات باحتراف، حتى بدأت تنشر ما تكتب في مجلة “الأمالي” موقعة باسم “دنانير” دون علم أخيها الذي انتقلت للعيش معه في القدس، والذي أبهجته معرفة الحقيقة فيما بعد.
“إن الكتب وحدها لا تكفي كمصدر لمعرفة الحياة وما في العلاقات البشرية من تعقيد وتصادم، علينا أن نحيا في الحياة ذاتها، فتجاربنا الخاصة تظل هي الينبوع الأصلي لتلك المعرفة”
بعد وفاة أخيها عادت فدوى إلى سجنها في نابلس أو كما تسميه “قمقم الحريم”، وكان الكتاب أنيسها الوحيد في تلك الفترة، ولكنها كانت تعي ضرورة اختبار الحياة بنفسها، وفي أواخر الأربعينيات من القرن الماضي ومع تغير نمط الحياة، انطلقت الشاعرة لنظم القصائد الوطنية والمشاركة في الحياة الثقافية.
في فصول شيقة غنية بالحكمة والمعرفة، تقص علينا الكاتبة بعد ذلك، بعض تفاصيل حياتها في العامين الذين قضتهما في إنجلترا تعب فيها من وجه الحياة هناك، فصول يستوقف القارئ فيها طموح هذه الكاتبة وإصرارها على تثقيف ذاتها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. ثقافة لم تقتصر على الجانب الأدبي بل اطلاع يشمل العلوم والموضوعات المختلفة كالفلسفة والتاريخ وغيرها، ما تجلى في مبادئها ومواقفها في الحياة.
جاء الكتاب في 237 صفحة، قُسمت إلى فصول قصيرة جدًا، وكتبت بلغة فصحى رشيقة بعيدة عن أي تعقيد أو تكلف، كان أسلوب الكاتبة في هذه المذكرات يعكس روحًا أنثوية مرهفة الحس تفيض حبًا وإنسانية متسلحة بالاجتهاد والعمل على تحقيق أحلامها الواسعة.
و يمكنك تحميل الكتاب من هنا.