ذكرتني رواية “راوية الأفلام” للروائي التشيلي “إيرنان ريبيرا لتيلير” بمشهد من رواية “نادي القتال”.
فيه يقوم تايلر، المحتقر للبشرية والذي يقوم بدور عامل عرض في السينما، بإضافة كادرات لصور بذيئة لأفلام يفترض أنها عائلية.
تظهر الصور لجزء من الثانية فلا تُلحظ، لكنها تثبت وجودها وهو ما يهم تايلر كثيرًا فيما نرى.
هذه الرواية تمثل المناقض الكلي لهذا الاحتقار للناس والأفلام، وفيما تظهر صور تايلر لجزء من 16 جزءًا من الثانية، قد يبدو أن رواية إيرنان ريبيرا لتيلر (رغم قصرها) تظهر للمتلقي بشكل أوضح ولوقت أطول.
لا أدري إن كان هذا صحيحًا بالفعل.
راوية الأفلام تتحدث عن حب السينما
من الواضح أن عالمًا مغايرًا بعض الشيء سبق الذي نعيش فيه الآن. فقبل مجموعات البشر المحدقة في الشاشات والعاجزة تقريبًا عن التفاعل مع العالم وساكنيه، كان ثمة زمن يعرض خيارات هروب أقل من هذه.
بالنظر إلى مأساوية خلفية القصة، فإنه يبدو بوضوح أن هذا السعي لوسائل الإمتاع (والإلهاء) كان لا بد أن يصل إلى ما نحن فيه الآن.
الملمح الثاني المسيطر على قصة رواية “راوية الأفلام” هو أن الكاتب ليس راغبًا في تجميل الماضي.
هناك تلك الحاجة البشرية إلى الانطلاق إلى الأمس حيث كانت الدنيا أفضل (لأن كل شيء أفضل من الحاضر فيما يظهر)، لا يساعدك النص على هذا لأنه يسلط الضوء على كل الجوانب المهملة. هذه البساطة المرغوبة كانت اضطرارية في جزئها الأكبر.
ليس من رأى كمن سمع
صدرت “راوية الأفلام” بالعربية عام 2011 بترجمة صالح علماني، بعد نشرها في تشيلي بعامين. تحكي قصة ماريا مارغريتا الفتاة المغرمة بالسينما، والتي عملت لوقت طويل راوية للأفلام.
فبعد انتهاء الفترة الذهبية في حياة الأسرة بإصابة الأب ورحيل الأم ونقص المال، بعد انقطاع أفراد الأسرة عن الذهاب مجتمعين إلى السينما لمشاهدة معجزة تحول شعاع الضوء الخارج من كوة العرض إلى حزمة مذهلة من الأضواء (والأصوات في ظن ماريا الطفلة)، كان لا بد للعالم أن يتغير.
أدى الفقر، ككل حاجة، إلى الاختراع، وكانت صورته الاكتفاء بإرسال فرد واحد من أفراد الأسرة لمشاهدة الفيلم ثم العودة لحكيه.
كيف يمكن لمن ذاق الرؤية أن يكتفي بالسماع؟ لا بد أن قدرة المرء على تكييف نفسه على تغير الأوضاع هي حائله الأول عن الموت. الأمر الثاني أن سير الإنسان في حياته ليس إلا مقاتلة خفية للملل والعادة، ما يجعل العثور على لذات جديدة (أو صور جديدة للذة) واعدًا أكثر من مجرد الاستمرارية (لاحقًا سيحدث أن يرى بعض الناس الفيلم في السينما ثم يذهبوا لسماع روايته). بعد قليل يتسنى لنا معرفة السبب الأهم: لقد كانت شخصية ماريا بطلة “راوية الأفلام” مذهلة؛ فنانة حقيقية كما وصفها أبوها.
شيء آخر
“كنت أريد أن أكون شيئًا آخر في الحياة. لست أدري ماذا، ولكن شيء آخر”.
لا يمكنك تمالك حاستك النقدية حين تقرأ نصًا بطلته صبية صغيرة، فأنت -بغريزتك الوقائية- تجد نفسك تقيّم الوضع وتعد سلبياته.
بالطبع هذه هي إحدى المتع التي تطرحها قراءة الأدب: قدرتك على تشريح مواقف وحيوات أنت مفصول في الواقع عنها مهما ارتبطت بها عاطفيًا.
لا يبدو لنا أن ماريا عاشت الحياة التي ينبغي أن تعيشها فتاة، لا يبدو لنا أنها أدركت كونها فتاة إلا متأخرًا.
بدلًا من اللعب بالدمى كانت تلعب بالعصي، تسير حافية تدخن وهي بعد صغيرة، بل إنها -وقد نشأت بين أربعة من الإخوة الذكور- تعلمت التبول واقفة بل والمشاركة (فضلًا عن الفوز) في المنافسات المتعلقة بذلك.
بالتأكيد كان رحيل الأم (باعتبارها أمًا وباعتبارها الأنثى الوحيدة مع ماريا في هذا البيت الخشن) عاملًا إضافيًا ضارًا.
هل أنت على وشك لوم الأب السكير؟ الكاتب يحجب عنك سهولة إطلاق الأحكام بتعقيد الحال: الرجل مشلول بفعل حادث عمل ويتلقى معاشًا قليلًا يطعمه وأولاده بالكاد.
في الأفلام الرديئة يحدد لك الكاتب الطيب والشرير، الضحية والمسؤول، ولا تفتأ الأحداث بجريانها تثبت هذا وتزيده وضوحًا، مناقِضة تعقيد الحياة وتشابك تفاصيلها على نحو يجعل تفكيكها (حتى بعد وضعها على الورق في صورة قصة) عسيرًا بعض الشيء.
لا يفترض أن يسلبك الأدب الجيد قيمك وقابليتك لتبني الآراء، لكنه بالتأكيد يهدئ حماسك للأمر.
راوية الأفلام ونقطة التحول
نحن لا نعلم على وجه اليقين إن كانت هوايات الإنسان وسيلة للتعايش مع العالم أو للفرار منه، للتعرف على النفس أو لطمرها.
لا أحسب ماريا كانت تعيسة في هذا العمر الصغير رغم توفر المقومات، المشكلة أنني مجبر على النظر إليها من خلال وضعي الشخصي حيث أجلس في بيتي يعلوني جهاز التكييف ويواجهني الحاسوب المحمول ويحوي مطبخي الطعام. لكني لا أشك في أنها امتلكت في لحظة تحولها إلى راوية أفلام شيئًا جديدًا جعل التعاطي القديم مع الحياة غير ضروري.
الشعور بالأهمية وإيجاد المغزى من الوجود، لهذا أهمية حتى بالنسبة لصبية صغيرة.
لم تكن ماريا مجرد ناقلة (وإن كان مجرد النقل يحتوي على حضور إبداعي غير منكور) لكنها كانت تسمح لنفسها ببعض التعديلات أحيانًا، ربما لأن الفيلم كانت تنقصه بعض المشاهد وربما لاحتوائه على خيانة زوجية تعلم أن ذكرها يعيد لأبيها الأوجاع.
ربما كان عليها أن تتلقى الرعاية في الأغلب لا أن تصدرها، لكن حاجة الأب العاجز والمهجور إلى المواساة حالت دون ذلك.
حورية وعصاها الكلمة
يستغرق سكان المعسكر بعض الوقت حتى يسمعوا براوية الأفلام الموهوبة، وتستغرق الأسرة وقتًا إضافيًا حتى تدرك إمكانية التكسب من هذه الموهوبة.
بتوافد الناس على البيت لحضور عرضها يبدأ الانهيار التدريجي الملازم عادة لتعرض طفل للشهرة: إهمال الدراسة والتخلي عن الهوايات الطبيعية (بدلًا من قراءة القصص كما اعتادت باتت تحب أن تعرف أكثر عن الفن وآله)، والسعي للمزيد، نسخة أقدم من الحكاية المعتادة عن الممثل الذي يتلفه تلقي النجاح باكرًا جدًا. سمعت مرة رايان رينولدز يقول إنك إذا وافقت على دخول ابنك عالم التمثيل فالجدير بك وضعه في مصحة لعلاج الإدمان مباشرة دون انتظار.
يسعى الآباء عادة إلى توقع الكثير من الأبناء؛ تحقيق أحلامهم البائدة وإعادة عيش طفولتهم والمنافسة مع غيرهم من الآباء، الفارق أن ماريا (التي اختارت الآن لنفسها اسم شهرة هو الحورية ديلسين) ساعية لا لإرضاء أبيها فقط، بل لبعث رسائل توسل لأمها الراحلة أيضًا.
يسعى الصغار لكسب رضا الكبار ويلومون أنفسهم كثيرًا على رحيلهم إن فعلوا، ماريا لم تكن استثناء.
لكن في رواية “راوية الأفلام” على الأرض المكتسبة أن تتسع، على الاسم الصاعد أن يزداد لمعانًا، وعلى الأموال أن تستمر بالتوافد، لا يهم إن كانت ماريا عاجزة الآن عن تذكر وجه أمها لكثرة ما طمسه من وجوه، لا يهم إن أضحت تخلط بين الأفلام والواقع بل والأحلام، العجلة الراكضة تقضي بالمواصلة والخطوة التالية الذهاب لأصحاب المكانات بدلًا من استقبالهم. الذهاب وحيدة إلى بيوت الغرباء قد يؤدي إلى إسعاد عجوز تسعينية على شفا الموت، وقد يؤدي أيضًا لأن يجلسها شرير القرية على ركبتيه “ويفعل بها ما يشاء، وبخاصة من الخصر إلى أسفل”.
المقاعد الفارغة
الأب بعيد عاجز عن تقديم الدعم والأم سيئة السمعة، تركيبة ممتازة لفتاة في الثانية عشرة تتعرض للتحرش.
لا يهم ما الذي حدث عقب ذلك، فالأهم هو: هل كان كافيًا ليتمهل القطار المسرع؟
بموت الأب، ينفرط عقد العائلة، بل الواقع يتفرق الجمع بين مسجون ومهاجر وميت.
يدخل التلفاز إلى القرية ويتجاوز العالم ماريا فلا يبقى لها ما تتشبث به إلا أن تكون -وهي في الرابعة عشرة- عشيقة رجل يكبرها بـ 35 عامًا.
تتضاءل مع الوقت آمالها بأن يقدُم هذا الجهاز الدخيل ويفشل في القضاء عليها والسينما على السواء.
هل كان يحزنها أكثر فراغ المقاعد في بيتها أم التي في السينما؟ عندما تتكاثر المصائب على هذا النحو يصبح لوم ماريا أو والدها أو والدتها (أو الفقر أو الزمن) خاليًا من المعنى.
يبدو تعاقب المصائب أقرب إلى غضبة الكاتب منه إلى غضبة القدر.
لكن ماريا تتمسك بالماضي حتى بعد أن أُغلق المركز وذهب الخلق، تحتفظ بالخيار القديم لأن الواقع لم يطرح قط خيارات عديدة.
قضت ماريا العمر تحاول التعرف على علاقتها بأمها.
بين التحول إليها باعتبارها المسار الحتمي (كلتاهما ستنتهي إلى امرأة خاسرة بأحلام مبتورة)، وبين مقاومتها باعتبارها أصل الشرور.
سنوات طويلة من التواصل المتخيل الذي أفقد المرأة الغائبة حضورها الحقيقي.
لهذا لم يكن مفاجئًا أن لقاءهما الوحيد، والذي اختتم الكاتب به روايته، جرى من وراء حجابٍ أبت ماريا إزالته.
لم يقع حوار ولا تبادلت الأعين النظر.
لاحقًا، عندما عرفت أن أمها شنقت نفسها، لم تبك.
كان غددها الدمعية قد جفت بالفعل.