لدينا اليوم ها هنا تحفة سوداوية أنيقة، رواية طرزها لنا الكاتب الألماني “Hermann Hesse – هيرمان هيسه” الذي اتهموه واتهموا عمله هذا بالجنون، فكانت روايته “Steppenwolf” والمترجمة للعربية بعنوان: “ذئب السهوب” أو “ذئب البوادي” في ترجمات أخرى” والتي تعد في حقيقة الأمر من أكثر الروايات جدلًا.
إن رواية “ذئب السهوب” عمل متقن حقًا، وآية ذلك أن مؤلفها لم يحتج لوقائع كثيرة تُسرد على القارئ فتنغص عليه معيشته، وإنما كان عملًا مونولوجيًّا شديد الدقة، اتسم بحدة الصراع الذي كان دائرًا في عقل البطل “هاري”، واستمر حتى آخر الصفحات، وفي مقالتي هذه، سأنبئك ببعضٍ من تأويله.
أبرز شخصيات العمل
هاري هيلر – بطل رواية اليوم، وهو متوسط العمر.
بابلو – عازف الجاز المرح الذي يغير نظرة هاري عن موسيقى عصره.
هيرماين – امرأة صغيرة يلتقي بها هاري في المرقص وتتيح له رؤية الحياة بلون مختلف.
ماريا – صديقة هيرماين التي تصير بدورها عشيقة هاري باقتراح هيرماين.
رواية ذئب السهوب والشيزوفرنيا
قصة العمل الأدبي، تبدأ برجل متوسط العمر اسمه “هاري هالر” الذي ينسى القصة عند أحد معارفه، يضيف قريبه هذا مقدمة مكتوبة باجتهاده وبعدها يبدأ بسرد القصة.
البطل “هاري هالر” لا ينسجم تمامًا مع الحياة العادية الروتينة خصوصًا مع مجتمع البرجوازيين.
خلال ترحاله بلا هدف وسط المدينة، يجد رجلًا يحمل إعلانًا لمسرح سحري، يعطي الرجل لهاري كتابًا اسمه “ذئب السهوب”. ويتفاجأ هاري أن هذا الكتاب يدعوه بالاسم، بل ويصفه بالاستثنائي.
يقوم هذا الكتاب بشرح عقلية رجل يعتقد أن له طبيعتان، أحدهما طبيعة روحية لبشري والأُخرى وضيعة وحيوانية لذئب السهوب. يجد الرجل نفسه في صراع لا حل له، فلا هو قانع بجانبه الذئب ولا هو مقتنع بجانبه الإنسان. يشرح الكتاب الاحتمالات العديدة التي يمكن أن تتشكل في روح كل بشري، لكن “هاري” غير قادر أو غير راغب في فهم هذا، يشرح الكتاب أيضًا دوافعه الانتحارية.
بالصدفة، يجد “هاري” – بطل رواية اليوم – نفسه مجددًا في موعد مع الرجل الذي أعطاه الكتاب، يسأله “هاري” عن المسرح السحري فيجبيه الرجل أنه ليس لكل أحد، لكن الرجل اقترح عليه مرقصًا مشهورًا إن كان يريد تفاصيل أكثر.
يلتقي “هاري” بعدها مع صديق قديم كان يتحاور معه في كثير من الميثولوجيات سابقًا. يدعوه الرجل الى بيته ويشمئز “هاري” من عقلية صديقه الوطنية الذي انتقد إحدى كتابات “هاري”، الذي يجد نفسه يذم الرجل وزوجته واصفًا لوحة الفنان Goethe التي تحتفظ بها بأنها عاطفية أكثر من اللازم، يتأكد “هاري” حينها أنه دائمًا ما كان غريبًا عن المجتمع؛ فبنظره هو لا يقدر على فهمهم، وهم بدورهم لا يقدرون على فهمه.
ينطلق “هاري” بلا هدف تحت سماء المدينة المظلمة، فيجد نفسه أمام المرقص الذي حدثه عنه صاحب الكتاب. هنالك يلتقي بـ “هيرماين” التي تدرك سريعًا أنه محبط. يتحدث الاثنان مطولًا فتسخر “هيرماين” من احتقار هاري لذاته ومن رؤيته للحياة، تعدُه “هيرماين” بلقاء آخر.
عرفّته “هيرماين” على كثير من نزوات الحياة البرجوازية، فعلمته الرقص واقترحت عليه بعض العقاقير، وعثرت له على حبيبة ودفعته طوال هذا الوقت على تقبل كل هذه الأشياء. عرفّته أيضًا على عازف جاز غامض اسمه “بابلو”، الذي اصطحبه إلى حفلة موسيقية ثم إلى مسرح سحري، حيث يلقى إجابات كثيرة لمعضلات لا يمكن أن يجدها سوى في عالم من السحر. (لا تقلقوا، لم أحرق، بل مهّدت، بالقصة الكثير ليتم اكتشافه).
في البداية، دعوني أعرفكم بذئب السهوب
إن “ذئب السهوب”، أو كما يعرف باسم “ذئب البوادي”، كائن عجيب قد تمثل في “هاري”، ومما لا شك فيه أن هنالك ذئاب سهوب أخرى، لكن ما ميّز “هاري” هو أنه كان دائم التفكير والقلق من طبيعته، دائم الشرود في ماهيته، و”هيرمان” تفنن حقًا في نسج صراعاته الداخلية حتى وصل بها إلى أوجها.
لقد وجدنا قيمًا إنسانية كثيرة عند “هاري”، لكنه لا يكاد يمل من وصف نفسه بالذئب، والحق أن “هاري” كان وحيدًا جدًا، وهذه الوحدة جعلته مستقلًا عن البشر، لكنها لم تغنيه عنهم كثيرًا، فلقد كان قلقه نابعًا في كثير من الأحيان من كونه قد تخطى حدود البشرية حتى لم يعد منتميًا لها، ومن هنا أتته فكرة وصف جانبه غير الإنساني بالذئب. والحق أن رجلًا مثل “هاري” لم يخفِ على أي من معارفه تميزه وثقافته وشدة لباقته ونباهة فكره، لكنهم جميعًا لمحوا فيه شيئًا من البعد حال بينهم وبين التقرب منه، وهو بدوره كان ذئبًا كثير الترحال، لا موطنًا حقيقيًا له. وإنما هو يمض من مكان لآخر بحثًا عن إجابة لخواطر جمَّة قد تداعت إلى عقله، فهل وجد إجابة في أثناء ترحاله؟
إن أكثر شيء لمسه “هاري” في بحثه هذا هو أن شكوكه تتأكد دومًا، فهو لم يعد يستطيع الرجوع إلى ما كان عليه في يومٍ من الأيام؛ فلقد أصبح الذئب بداخله قويًّا جدًا، وبرزت أنيابه واحتدت، لكن “هاري” الإنسان كان يتوافق في لحظات كثيرة مع الذئب وانعزاليته، ورأى أن في عزلته هذه من المميزات ما يستوجب لها أن تظل قائمة، فلقد كان يشمئز من مظاهر العصر الذي هو يعيشه.
فلا هو معجب بموسيقاه الذي وصفها كثيرًا بالهوجاء في بساطتها، ولا هو يتفاعل مع باقي البشر. لكنك تجده هادئًا ومتأملًا، يرى كل شيء باتقاد بصر وعبقرية مميزة مكنته من أن يكوِّن رأيًا في كل شيء تقريبًا. لكنه كان شديد التقلب أيضًا، خاصة في صداقاته وعلاقاته؛ فلقد مر بأكثر من قصة حب ولم يستقر على حال واحد.
فكان بذلك “ذئب سهوب”: دائم الحزن، كثير القلق، وحاد الذكاء. لكنه أيضًا كان مفعمًا بالإحساس والحب وهذه الصفات شكلت شيزوفرنيا “هاري” الذى كثُر عليه الأرق حتى فكر كل يوم بل كل لحظة بالانتحار.
حقيقة الصراع
إن أبرز الأمثلة على شيزوفرينية “هاري” هي نظرته للبرجوازين، وهي الفئة الوسطى من المجتمع، فقد كان يمقتها ويحتقر بساطتها من جهة، غير أنه كان يفضل المكوث بينهم من جهة أخرى. إذ تذكره تلك الحياة البسيطة التي يعيشونها بوالدته وأهله الذين لم يعد يزورهم.
وقد أعجب في مرة من المرات بصبي برجوازي كان يسرِد عليه القصص تلو الأخرى عن الكتب والموسيقى، فأنصت له الفتى بحسن ذوق أعجبه. غير أنه لم يبدّل نظرته في أي يوم عن هذه الفئة من الناس، فقد رأى أنها فئة تعيش وتُكمل مسيرتها في الحياة بلا أي معنى. لم تكن للبرجوازيين أي حيلة لدى “هاري”، بل كان يرى فيهم بساطة مقتها.
ومن هذا المنطلق فقد كان “هاري” الإنسان المثقف راضيًا عن عزلته التي أبعدته عن سخف البرجوازين، غير أن الذئب بداخله كان غريزيًّا بسيطًا. و لمَّا كان هكذا الحال؛ لم تكن علاقة “هاري” بمعظم البشر مستقرة، بل كنا نجد حضورًا للذئب المصاحب لهم تارة وللمثقف الكاره لهم تارةً أخرى. ولكن هل كان الصراع داخل عقل “هاري” أو أنه كان حقيقيًّا؟ إن هذا السؤال مفتوح الإجابة.
فمن جهة كان المونولوج الداخلي يعج بالفوضى التي أفاضت بعقل “هاري” وروحه، ومن جهة أخرى كان الذئب يتجلى في استقلالية “هاري” وانغماسه باللذات. وفي عشقه للفن والمعرفة كان “هاري” البشري يبرز بوضوح شديد، فقد كان شغوفًا بالعلم، شديد الولع بالموسيقى، وبالأخص موتزارت الذي اعتبره عبقريًّا خالدًا ليس له نظير. غير أن إنسانيته كانت تتضارب مع وحدانيته المزمنة، وعلى صعيد آخر كان كثير التقلب في الحب. ومعروف أن الذئب يعشق مرة واحدة فقط ثم يعوي على ضوء القمر حزينًا حينما تودعه زوجته، لكن “هاري” لم يجد الاستقرار مطلقًا مع امرأة بعينها. ومن هنا كانت شيزوفيرينية هاري موضعًا جيدًا للدراسة، وقد رأى كثيرون أنها أحد أفضل صور الانفصام، ومن خلالها يمكن للمرء أن يرى الطبيعة البشرية مجردة من زخرفها.
ما الخلفية الفلسفية لأفكار للكاتب هيرمان هيسه؟
تأثر العمل كثيرًا بالفلسفة، خاصة الغربية منها، من تلك الفلسفة الأفلاطونية وفلسفة سبيونزا والفلسفة النيتشية. وسأسرد عليكم هذه الفلسفات تباعًا وبشيء من الاختصار.
أولًا فلسفة أفلاطون عن المعرفة مهمة جدا للكاتب “هيرمان هيسه”، نظرية أفلاطون تخبرك أنك إذا ما لاحظت عدم معرفتك لشيء ما فلا بد أنك عرفته مسبقًا، وإلا ما كنت لتشعر بأثر فقدانك لها. طبقًا لسقراط فإن حل هذه المعضلة يكمن في أن المرء يعرف كل شيء يحتاجه أصلًا. من هنا أتت نظرية أفلاطون عن الاسترجاع، يرى أفلاطون أنه يمكنك استرجاع كل ما عرفته عن طريق فحص حالات سابقة للوجود ذاته. هيسي يعتنق هذا المفهوم تمامًا ويُصيره إلى أن يكون أساسيًّا في كتابه. بطريقة أو بأخرى مفهوم انفصام هاري يمكننا الرجوع به إلى نظرية أفلاطون ذاتها.
سبينوزا أيضًا قد أثر في “هيرمان هيسه”، فهو يرى أن الإله يجب أن يكون حقيقيًّا طالما أن كل شيء آخر غيره -من أفراد وحيوانات وكواكب- موجودة أيضًا. اعتقاد سبينوزا مصدره هو أن الفرد لا يمكن أن يكون موجودًا بدون مسبب مسؤول عن وجوده. يكمل سبينوزا نظريته بقوله بأن الفرد لا يوجد في صورة كاملة وإنما في صورة وجود مصغر. فقط اتحاده مع الله هو ما سيكفل له الوجود في صورته الحقيقية المثلى والكاملة. يري “هيرمان هيسه” في هذا العمل الفني أن صفة الخلود هي وحدها التي يمكن للفرد من خلالها أن يتحد مع الإله، ومثال ذلك في قصتنا هذه هما موتزارت وجوثه. ويطمع هاري في القصة أن يصل إلى صفة الخلود هذه مستمدًا إلهامه منهما.
من المثير للاهتمام أن نجد أن فريدريك نيتشه قد أثر على “هيرمان هيسه” هو الآخر. رغم اختلاف نيتشه عن المثالين الأولين، إلا أنه مائل للعدمية، وبالتالي عدم وجود إله أصلًا أو أي نوع من المعرفة. حجة نيتشه هي أنه ضد أي فلسفة أخلاقية أو دينية لأنها لا تفعل شيئًا سوى قمع الغرائز الطبيعية، وبالتالي القضاء على فردية الروح.
هذه الفلسفة تشكل الأساس لدى طبيعة الذئب فوجوده معاكس لوجود الإنسان، فالإنسان يمثل البرجوازية التي تعبر عن النظام والأخلاق والمسؤولية والاحترام بينما يمثل الذئب على الجهة الأخرى كائنًا غريزيًّا أنانيًّا للغاية، غاية الذئب هي أن يتحصل على أكبر قدر ممكن من المتعة، جسديًّا كانت أو حسيّة، دون أن يعير أي أهتمام للعواقب الممكنة.
حل عقدة هاري وشيزوفرينيته
في أثناء فترة ترحاله، يجد هاري فتاة شغوفة بالحياة تدعى “هيرماين”، وفي الحقيقة، هي أتت في الظروف المناسبة. كان “هاري”، بطل راوية “ذئب السهوب”، وقتها في أشد فتراته تعاسة وبؤسًا؛ فيئس كثيرًا من الحياة ورغب في الانتحار، لكنه تحاور مع هذه الفتاة في حانة بالمدينة، وهنا حدث غير المتوقع على الإطلاق.
شخصية “هيرماين” كانت مختلفة تمامًا عن “هاري” الذي كان منطويًا ورافضًا للحياة، كانت برجوازية تميل إلى حب الرقص؛ فدعته إلى تعلمه وعرفته بأشياء جديدة وبسيطة في حياته، في تلك المرحلة لعبت “هيرماين” دورًا مهمًا في إعادة بناء أفكار “هاري”، بل وجعله يعيش مجددًا الحياة التي قد غابت عنه بعد أن كرَّس نفسه لاستقلاليته ونبذ كل شيء في هذه الدنيا تقريبًا.
والحق أن المؤلف برع بشكل باهر في علاج مشكلة “هاري” الذي عرفته “هيرماين” بدورها بماري التي صارت عشيقته وبابلو الذي جعله يرى الجاز بصورة مغايرة، من خلال تلك الأحداث، عرفنا أن “هاري” لم يكن ضد الحياة بصورة خاصة، بل كان يعاني مشكلة في معرفة ذاته وفهمها فهمًا صحيحًا، ولذلك كانت “هيرماين” عنصرًا مهمًا جعل هاري قادرًا على النظر للحياة بصورة مغايرة.
ختم المؤلف القصة بحل الكثير من مشاكل هاري الوجودية رغم طرحها العجيب الذي كان نابعًا من أن “هيرمان هيسه” كان يكتب عن ذاته كما كان يكتب عن ذوات جميع البشر. طرح علينا (أزمة هاري وشيزوفرينيته)، ثم حاول أن يسمح له بالنظر للحياة بشكل مختلف ثم في النهاية يلتقي “هيرمان” بروح موتزارت الذي كان مغايرًا لتلك الصفة العبقرية التي اعتاد على معرفتها.
سرعان ما يجد “هاري” أن روح موتزارت هذه بعيدة كل البعد عن الصورة المثالية التي تخيلها فهي فظة ولعوبة وعادية، وإلى حدٍ ما كانت برجوازية، الأمر الذي كان مثيرًا للسخرية بالنسبة لشخصية “هاري” الذي جاب مسرحًا سحريًّا مع روح موتزارت ووجد فيه خمسة أبواب، بها خمسة احتمالات مختلفة.
تتغير القصة في شقها الثاني، ونلحظ أنها لم تعد وصفية تمامًا، لكنها ها هنا كانت بمثابة علاج روحي لشخصية “هاري”، الذي خاض تجربة ربما كانت في بادئ الأمر تعيسة، لكنها فتحت المجال لأمل جديد في نهاية النفق، أمل استمده “هاري” من البرجوازية ذاتها التي مقتها يومًا ما.
وفي الختام، لماذا ذئب سهوب رواية تستحق القراءة؟
راوية “ذئب السهوب” للكاتب “هيرمان هيسه” عمل أدبي يمنحك فرصة للبحث في أعماقك عن إجابة للوجود. فهي ترشدك إلى معرفة أن هنالك الكثير من الطرق المتباينة التي بوسعك أن تقتحمها، وبفضلها تصعد إلى أعلى المراتب الممكنة، وهذا ما عرّفه المؤلف بصفة الخلود. لكن الخلود بحد ذاته ليس المسلك الوحيد، هنالك طرق كثيرة بإمكانك العيش بها. وذلك الأرق الذي تشعر به في وسط الطريق، ما هو إلا شعور طبيعي، لكن بيدك أيضًا ألا نجعله يُفسد عليك حياتك كلها.
ورغم أن تجربة خيالية كتجربة “هاري” بطل رواية “ذئب السهوب” لمؤلفها “هيرمان هيسه” غير متاحة لنا في هذه الدنيا، إلا أن الاحتمالات تظل قائمة ولا نهائية، قراءة ذئب السهوب ستعطيك أولًا نظرة متفحصة لمعركة الوجود، لكنها ستشغلك أيضًا بلمسات وجدانية ستجعلك بلا شك تنظر إلى هذه المعضلة من خارج الصندوق؛ لذلك فهي رواية تستحق القراءة والتأمل.