حجر الرشيد ..مفتاح حجرة أسرار مصر القديمة

أسطورة تحوت والكتابة المصرية في عصور ما قبل التاريخ

عرف الإنسان الكتابة منذ قديم الزمان، ويُعتقد أنها تطورت في بلاد ما بين النهرين ثم جاءت إلى أرض مصر من خلال حركة التجارة. لكن تتميز الكتابة المصرية القديمة والتي يُشار إليها “الكتابة الهيروغليفية” بأنها مصرية تمامًا، إذ أنها تتكون من رموز ومفاهيم مصرية ليست موجودة في أي مكان آخر سوى في الثقافة المصرية. وتطورت الهيروغليفية في عهد ما قبل الأسر المبكرة، في الحقبة الزمنية الواقعة بين عامي (2613-3150) قبل الميلاد.

الهيروغليفية كلمة يونانية الأصل، وتعني كلمات الإله، فقد اعتقد المصريون أنها هبة أعطاهم إياها تحوت (أحد الآلهة المصرية القديمة، حسب اعتقاداتهم). هناك بعض الأساطير حول نشأة تحوت، وكانت الأسطورة المؤكدة لدى المصريين القدماء، أنه وُلد بمعرفة واسعة وأدرك قوة الكلمة في وقتٍ مبكرٍ.


لم يبخل تحوت على البشر بمعرفته الغزيرة، ومنحهم إياها بسخاء. كان الأمر بمثابة مسؤولية ويجب عليهم أن يأخذوه على محمل الجد، حيث يمكن للكلمة أن تؤذي أو تدمر أو تجرح أو ترفع أو تُخفِض، لذلك كانت الكلمة مسؤولية كبيرة. ولم تكن هدية تحوت هذه للمصريين فقط لتمكنهم من التعبير عن الذات، وإنما لتغيير العالم من خلال قوة الكلمة.

يُعتقد أنّ المصريين القدماء قد أوجدوا الكتابة من أجل خدمة حركة التجارة في تدوين السلع والأسعار والمشتريات وما إلى ذلك، ثم تطورت فيما بعد وأُضيفت إليها بعض الرموز والإشارات وأصبح لها أنظمة خاصة في الكتابة، حتى استُخدمت في كتابة السيرة الذاتية على المقابر ونقش أحداث الحروب والانتصارات على جدران المعابد ومنها عرفنا الكثير عن تاريخ مصر وحُكامها.


ماذا حدث للغات المصرية عبر الزمن؟

كانت الهيروغليفية تُكتب بالإشارات والرموز. وبعد أن فتح الإسكندر الأكبر مصر، أُضيف لها سبعة حروف ديموطيقية لم يكن لها مثيل حتى في اللغة الرومانية القديمة، وكانت تُكتب بالحروف الإغريقية. بعد ذلك أُطلق على اللغة المصرية القديمة اللغة القبطية، إشارةً إلى اللغة المصرية. أثناء فترة أواخر عهد الرومان في مصر، كان هناك ثلاث كتابات في مصر وهم: الهيروغليفية ثم الإغريقية ثم القبطية.

استمر استخدام الكتابة الهيروغليفية حتى القرن الرابع الميلادي، ثم أُهملت بعد ذلك باختفاء الوثنية، إلى أن تناساها الناس. ففي هذه الأثناء كانت الديانة المسيحية قد انتشرت في مصر. وأما اللغة الإغريقية فقد قلَّ تداولها بعد الفتح العربي ولم يعد هناك حاجة إليها. وظلت القبطية في بعض الأماكن في الوجه القبلي واستُخدمت في الصلوات والمدارس حتى أواخر القرن السابع عشر، بعد ذلك انحصر استخدامها في دور العبادات، وهي موجودة إلى يومنا هذا، لكن لا يعرفها إلا عدد قليل.

الحملة الفرنسية وكشف تاريخ مصر

يقول المثل، “رُب ضارة نافعة”. هذا ما حدث في عام 1798 عندما رست السفن الفرنسية على شواطئ مصر. وبدأت في تنفيذ خطة الاحتلال والسيطرة على شرق البحر الأبيض المتوسط بقيادة نابليون بونابرت، وجاء عدد كبير من العلماء والمهندسين وغيرهم من المتخصصين في مختلف المجالات لاستكشاف هذه البلاد العتيقة، وكان كتاب “وصف مصر” أفضل شيء قدمته الحملة الفرنسية إلى مصر، بالإضافة إلى حجر رشيد الذي عَثر عليه جنودهم.

لقد لعبت الصدفة دورًا حاسمًا، نستطيع القول، بأنها نقطة فاصلة في التاريخ، فبعد أن كان الظلام يغطي معظم تاريخ مصر بعد فقدان الكتابة الهيروغليفية، ظهر حجر الرشيد وكأنه طوق نجاة يغيث حضارة مصر الفرعونية العظيمة، التي كادت تفقد الأمل في العثور عليها.


حجر الرشيد بين أيدي الفرنسيين والبريطانيين

حجر الرشيد عبارة عن جزء مكسور من لوح حجري كبير من البازلت، يبلغ طوله 44 بوصة، بينما عرضه 30 بوصة. ومن حسن الحظ أنّ النص المحفور عليه مكتوب بثلاثة أنواع من الكتابة، وهي: الهيروغليفية والديموطيقية واليونانية القديمة.

عندما عُثر على حجر الرشيد، وُجد أنه يحتوي على 14 سطرًا عن الملك بطليموس الخامس (حكم مصر في الفترة ما بين 204 إلى 181 قبل الميلاد) ولم يستطع أحد قراءة ما على الحجر، نظرًا لفقدان الهيروغليفية منذ فترة طويلة، لكن من حسن الحظ أنّ النص مُكرر باللغة اليونانية القديمة، وبذلك أصبح حجر الرشيد مفتاحًا قيمًا لفك شفرة الكتابة الهيروغليفية.

بعد هزيمة نابليون في حملته، أصبح حجر الرشيد وبقية الآثار التي وجدها الفرنسيون ملكًا لبريطانيا تبعًا لشروط معاهدة الإسكندرية عام 1801. ووصل الحجر إلى بورتسموث بإنجلترا في فبراير عام 1802.

محاولات العلماء في فك شفرة الهيروغليفية 

بعدما عُثر على الحجر، ولُوحظت كتابة النص عليه بثلاث لغات، تعرفوا أنّ هذا كان مرسومًا ملكيًّا صادر عن الملك بطليموس الخامس عام 196 قبل الميلاد من خلال قراءة النص باللغة الإغريقية، وقد ذُكر أنّ نفس النص كُتب باللغتين الهيروغليفية والديموطيقية. ومن هنا بدأ بريق الأمل في التوهج، فهذه فرصة رائعة لمقارنة النصوص وفك تلك الشفرة المحيرة.

عام 1802، بدأت أولى محاولات فك الرموز الهيروغليفية على يد “سلفستر دي ساسي” وقد ركز على النص المكتوب بالديموطيقية، نظرًا لتشابهه مع العربية، لكن محاولاته باءت بالفشل، ولم يستطع الكشف عن شيء سوى كلمة بطليموس.

عام 1814، بدأ “توماس يونغ” محاولاته في فك الرموز الهيروغليفية. استخدم ما توصل إليه من سبقوه، فقد استطاع التعرف على رموز اسم بطليموس، لكنه عجز عن معرفة الحروف الصوتية.

عبقرية شامبليون في فك رموز حجر الرشيد تبرز تاريخ مصر

ظلت اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) سرًا أو لغزًا غامضًا لمدة تصل إلى حوالي 1400 سنة إلى أن أعلن العبقري “جان فرانسوا شامبليون” عن قدرته على حلها عام 1822.

تبدأ قصة شامبليون منذ أن سمع عن التاريخ المصري وتعلق به، وعزم على دراسته وتعلم كل شيء يتعلق به تقريبًا، وسمع عما توصل إليه كل من سلفستر وتوماس بخصوص أسماء الأعلام التي تُكتب الأبجدية المصرية وعلى أساس هذا بدأ العمل.

توصل شامبليون إلى أنّ الكتابة الهيراطيقية القديمة ما هي إلا اختصار للهيروغليفية، واتضح فيما بعد أنها استُخدمت في الأغراض السريعة. كما لاحظ أنّ عدد الرموز الهيروغليفية أكبر من الحروف المقابلة في الكتابة الهيراطيقية، مما يدعم صحة تفكيره.

إضافة إلى ذلك، وصله رموز لكلمتين على مسلة في “فيلة”، كانت إحداهما مطابقة لكلمة بطليموس المكتوبة على الحجر والأخرى تُقرأ “كليوباترا” فهناك خمسة حروف مشتركة بين اسم “بطليموس” و”كليوباترا” وهم (ب، ي، ل، و، ت) بافتراض أن حرف (ط) و(ت) لهم نفس الصوت. وعند النظر إلى رموز الكلمتين نجد أنّ هناك خمسة إشارات مشتركة بالفعل، في حين أنّ الحروف المختلفة مثل: (س، ك، ر) موجودة في أحدهما دون الأخرى، فنجد حرف (س) في اسم الملك فقط، بينما حروف (ك، ر) في اسم الملكة فقط.

ظل شامبليون يطبق نفس القاعدة ويقارن الرموز بأسماء البطالمة والحكام الذين ذكرهم كتاب “وصف مصر” وأنشأ جدولًا بالحروف الأبجدية الصوتية. وفي 27 سبتمبر عام 1822 أعلن شامبليون بأنّه يستطيع حل شفرة الكتابة الهيروغليفية.

حصل شامبليون على نسخة من الكتابات الهيروغليفية من معبد أقدم من المعابد الإغريقية. ووجد في نهاية إحدى الكلمات رمز حرف (س) مرتين وكان يشبه ذلك الذي في كلمة بطليموس التي وجدها على حجر الرشيد. كما وجد إشارة قرص مستدير، والذي يمثل الشمس، وهذا الرمز يُقرأ في الكتابات الإغريقية بلفظ “رع”، أيضًا وجد رمزًا يعني ميلاد أو يوم ولادة، وعندما رتب شامبليون هذه الرموز وترجمها، حصل على “ابن رع”. بنفس الطريقة كشف عن “ابن تحوت”. وبذلك تعرف على رموز جديدة، وهكذا. تكمنت عبقرية شامبليون في إدراكه أنّ الكتابة الهيروغليفية ليست تصويرية فقط كما اعتقد من سبقوه، فهي تصويرية ورمزية وصوتية.

جاء شامبليون إلى مصر في رحلة علمية استكشافية ليطبق ما حصل عليه وأيقن نجاحه في مهمته الصعبة والممتعة في آنٍ واحدٍ، وألف كتابًا بعنوان “آثار مصر وبلاد النوبة”. عاد إلى فرنسا من جديد واستلم كُرسي أستاذ الآثار المصرية، الذي قد أُنشئ له خصيصًا، تكريمًا لذلك العالم الفذ. لكن سرعان ما رحل شامبليون عن عالمنا في 4 مارس عام 1832، بعد أن وضع حجر الأساس في كشف تاريخ مصر العظيم.