لا أعرف من أين تكون البداية، لكن الأديب أحمد خالد توفيق حين كان الكثيرون غيره يقصون الحكايات و يسردون الروايات، كنا في حضرة د.أحمد نستمتع بأكثر من مجرد قصة!
فالقصة عند د.أحمد ما هي إلا جلسة معرفية لا تتوقف. في الوقت الذي لم نعرف به الإنترنت، وكانت أقصى معارفنا تلك التي حولنا، كان هذا الرجل لا ينفك يدس لنا المعرفة بين السطور.
و كنت لا تبرح تنجز روايته حتى تتمنى أن تقرأ أكثر عن مواضيع داعب بها عقلك، عن تعليقاته القصيرة المعبرة، وعن أدباء لم تسمع بهم من قبل، وعن معلومات طبية مذهلة، تستمر معك مدة تدهش بها أصدقاءك الذين يتعجبون دومًا من أين تأتي بها! وعن قصص قديمة ومفارقات تاريخية وما إلى ذلك من “فراشات” معرفية كان د.أحمد يأبى إلا أن يداعب بها خيالنا في كل قصة يكتبها.
من كان يتصور أن يكتب أحدهم في أدب الرعب النفسي بهذه البراعة وتلك الكمية من الثيمات المتنوعة (كان د.أحمد يسخر من أولئك الذين يقرؤون قصصه في المواصلات أو قاعات المحاضرات، ثم يخبرونه أنها ليست مرعبة!).
وفي الوقت الذي تجد أكثرهم يخيفك بالدموية الزائدة أو قصص السفاحين، كان هو دائماً يملك أصلاً معرفياً أو تاريخياً يبني عليه قصته. أوَمن كان يتجرأ في الوقت الذي يدفع فيه الكثير من الأدباء بالبطل كامل الأوصاف إلى قصصهم، أن يقدم لك هو بطلاً تشعر دوماً أنك أفضل حالاً و حظاً منه، وكثيراً ما ترثي لحاله!
وفي الوقت الذي يكتب فيه الكثيرون عن الواقعية، خصص هو سلسلةً للخيال بعنوان “فانتازيا” لا تكف فيها الشخصيات والأزمنة والأمكنة عن تبادل الأدوار بشكل بديع! ثم من كان يفكر أن يجعل من علوم الطب أدباً ممتعاً و يخصص سلسلة لذلك بعنوان “سافاري”!
بل من فكر يوماً أن يجعل من “الإنترنت” عالماً مرعباً تلعب فيه المعلومات الرقمية دور البطل في سلسلة بعنوان “WWW”، و غيرها من السلاسل!
و من فكر أن يبتكر أسلوباً قصصياً يملك أكثر من نهاية، مثل “كهوف دراجوسان“، أو يمكّن القارئ من نسج قصته الخاصة كما في “36“! و من جعل “المرض” يدلي باعترافاته! ومن يملك عبقرية تخله لكتابة قصص كـ”أرض الظلام” (التي -برأيي- ظلمها حين لم يضمها في رواية كاملة) أو “أسطورة البيت” معشوقة القراء! أو يكتب مقالاً يصيب به قلوب كل شباب الوطن العربي بعنوان “شباب عايز الحرق”!
ومن أول من وضع روايات مخصصة فقط للقراءة عبر الإنترنت و تصادف فيها النهاية حسب اختيارك و حظك أيضاً؟! و من شارك غيره في إنتاج موسوعات الرعب و السينما و حتى قصص الرسوم المصورة و المقالات الكوميدية ؟!كل ذلك بالإضافة إلى تقديمه ترجمات حصرية للأدب العالمي!
إن كمية المواضيع التي كتبها هذا الرجل لا يمكن إحصاؤها. وأعتقد أن الكثير من أعماله سقطت حتى من أفضل متابعيه، و ذلك لعادة د.أحمد الغريبة التي تجعله لربما يكتب في عدد من الأماكن المختلفة في نفس الوقت، ويكون عليك دوماً أن تبحث عن المكان الجديد الذي هبط فيه بمقالاته التي تتنوع حسب المكان الذي يكتب فيه.
يقولون أن السعادة تتحق بما أعطيت لا بما ملكت. و د.أحمد بدأ مشواره الأدبي من العام 1992 لا يملك أعمالاً أدبية دسمة -من نوع الروايات مثلاً- إلا القليل جداً (رغم أن منها ما حقق نجاحاً عالمياً كروايته يوتوبيا)، و حين قرر إنهاء سلسلته الأولى والأشهر في أدب الرعب، علق بأنه سيتجه الى إصدار الروايات الكبيرة القطع. و أوضح أنه على مدار سنوات، لم يفعل إلا أنه أشعل “محرقة” لكمية أفكار كثيرة، أحرق فيها أكثر من 230 قصة و مئات المقالات انتشرت في شتى المواضيع.
بالإضافة إلى القصص القصيرة التي كان ينشرها بانتظام في الصفحات الورقية أو الإلكترونية، أو تلك التي ضمها في كتب كـ”الآن نفتح الصندوق” أو “الآن أفهم” و غيرها، ستجد مجموعة دسمة من الأفكار، تصلح كل واحدة لنسج رواية مستقلة.
و ذلك أمر صادق حقاً، فالرجل كان ماكينة أفكار لا تتوقف! وأي كاتب آخر يملك فكرة من أفكاره كان سيصبر عليها و يقولبها حتى يخرج بها في عمل كبير يؤرخ له. ولكن د.أحمد كان يغذي آلاف القراء بأفكاره التي أحرقها من أجل إشعال “أوليمب” الشباب.
حتى أني لا أشعر بالضيق عندما يخبرني أحدهم أنني متأثر بأسلوب الرجل في الكتابة، فأجيبه ربما، و لكن من لم يتأثر ؟! إنك لتجد أسلوب الرجل يتناثر من حولك في كل مكان، حتى إنك لتشعر أن أعمال الرجل كقبة زجاجية هوت على رؤوس جمهور المسرح فأصابت كلاً منهم بشظية يختلف حجمها حسب حظ صاحبها. و اعذروني على هذا التشبيه الغريب، فمن يتحدث عن النمطية هنا و نحن في حضرة ملك الإبداع و التعليقات المعبرة!
ربما لا يعرف الكثيرون أن الأديب د.أحمد المتخرج من كلية طب طنطا, عمل فترة كبيرة في مجال برمجة الحاسوب!و ربما كانت هذه إحدى أقوى نقاط الرجل. بالتأكيد لا نتكلم فقط عن برمجة الحاسوب، بل عن كونه دائماً مواكباً لما يحدث حوله.
ففي الوقت الذي كان غيره من الأدباء لا يلبثون حين يكبر حجم جمهورهم إلا و يبدؤون بمراعاة نوع جديد من المواضيع التي يتناولونها، كان د.أحمد -و لا يزال- يفاجئنا بشغفه بما يحدث حوله، فهو لا يتحرج أن يشاركنا موقفاً حياتياً له، أو فيلماً جميلاً أعجبه أو حتى ضايقه، أو أن يشارك صفحة أو موضوعاً وجده على الإنترنت و أعجبه (وربما كان أول كاتب رأيته صنع موقعاً الكترونياً لنفسه في أوائل العقد الماضي). بل ويعلق معنا على أعمال الشباب التي نتداولها عبر الوسائل الاجتماعية (مثل مقاله مؤخراً عن شاب ساخر مغمور يدعى إسلام حسام).
في النهاية، هذا الرجل كان دومًا لا يحب الانغلاق، لا يزال في قلبه حنين لمشاركة القراء كل شيء. والأهم أن كل ذلك يحدث مع احترامه الشديد لذكاء القارئ وحتى توقيره! وهو ما شهدته قد حدث –مثلًا- حين علق ذات مرة على أحداث سياسية وعارضه البعض في رأيه، فأرسلت له فتاة رسالة ترد فيها، فنشرها وقال إنه لن يعقب على هذه الرسالة لأن هناك قاعدة نفسية تقول “إن الذي يرد أخيرًا يملك الحقيقة الأكبر في نفوس المتابعين”. ببساطة. هذا رجل يحطم كل العوائق بينه وبين أدبه ومن حوله!
حين بدأ الكتابة في مؤسسة الأهرام، صادفه تعليق طريف من الراحل لبيب السباعي يقول فيه: “أنت رجل يعلمك كل من دون الثلاثين، و لا يعلم عنك شيئاً ممن هم فوقه !!”.
و كيف لا يكون أديب الشباب و هو المحرض الأساسي للعديد من الأسماء اللامعة حالياً في سوق الأدب. وهو الذي شارك الكثير جداً من الشباب في مشاريع شبابية -ربما فشل الكثير منها للأسف – ولم يتحرج يوماً أن يضم اسمه العريق إلى جانب العديد من الأسماء التي ربما يكتب بعض أصحابها لأول مرة. كان يشاركهم و يشعر أن عليه أن يقوم بدوره داخل القطر العربي. حتى إنني أذكر أيام كان القراء “الكويتيون” يتنافسون في التعقيب على أعماله في إحدى المنتديات القديمة التي كان يشاركنا فيها بنفسه من وقت لآخر.
و لربما نجد خير دليل في العلاقة التي نشأت بينه و بين أدباء مشهورين في هذا الوقت أذكر منهم “أحمد مراد“. ذاك الأديب الذي كان يحلم بتوقيع من أستاذه د. أحمد، فصار د.أحمد لا يتحرج أن يخبر الجميع أنه يستشير تلميذه و يطلب رأيه في أعماله. هذا أديب يرفض فكرة ترك دائرة الشباب مهما حدث، أو قل يرفض أن يشيخ!
و لا أنسى الإشارة هنا -للدلالة على شبابه المتجدد- الى ذاكرة د.أحمد المذهلة! و لا أتحدث هنا فقط عن ذاكرته فيما قرأه أو سمعه، فذلك معروف، لكنني أتحدث عن ذاكرته الاجتماعية التي تجعله يتذكرك حتى لو شاهدك مرة منذ سنوات! بل و يتذكر كامل الحوار الذي دار بينكما ولو كان قصيراً، و هذا بناء على تجربة شخصية.
و لم أر في حياتي آلافاً يقيمون سرداق عزاء لبطل خيالي كما حدث لرفعت إسماعيل -حين أعلن د.أحمد عن انتهاء السلسلة- وذلك في أكثر من “حدث Event” على الفيسبوك، و ربما كان هذا واحداً منها.
منذ نحو عامين. توقفت قلوبنا عن النبض حين علمنا بنبأ تعرض الرجل لأزمة قلبية عابرة أنجدته فيها العناية الإلهية. (ستشعر أن د.أحمد لربما يحاول أن يقتبس بعضًا من صفات الرجل رفعت اسماعيل). ولكنه بعد أن أفاق وجد الكثير من الشباب حوله يهتمون لأمره. ففي نفس الوقت الذي تجد فيه كثيرًا من كتّاب جيله فقدوا أي متابعة وصارت مقالاتهم كالدار الخاوية لا تعليق ولا تفاعل، لا يزال أديبنا تضج مقالاته بالصخب والتعليق والتعقيب، ومراسلات يستلمها بريده بعد كل مقال.
كل هذا ولا يزال هو نفس الرجل الذي لا يحظي بأي اهتمام رسمي ولا يتذكره الكبار. ولم يتحقق -بعد- حلمه في فيلم يحمل إحدى أفكاره. وحتى حين يتمكن معدّ تلفزيوني شاب من دعوته لمقابلة في برنامج حواري، ستجد أن حظه يوقعه في الغالب في وجه محاور كبير السن لا يعرف من هو الرجل أصلًا، ليعود بعدها إلى ساحته المفضلة لمتابعيه الشباب الذين يحبونه ولا يرى نفسه بدونهم.
كل هذا لربما ينبئ أن هذا الرجل سيكرمه شبابه حين يكبرون و يتقلدون زمام الوصاية. وحينها لربما ينال جائزة رسمية. أو يسطرون اسمه للطلبة في المدارس، أو يخصصون جائزة باسمه. و لكن كل هذا ربما لا يهم أديبنا، فتكريمه الحقيقي يحصل عليه يومياً من أولئك الذين يمتنّون لأنهم قرؤوا له يوماً.. و منهم كاتب المقال..!