’’يجب على الفلسفة أن تقول كل شيء، مهما ارتعد الناس من ذلك‘‘
كان صباحاً ممطراً عند ذهابي لتلك المكتبة الصغيرة التي أقتني منها الكتب، بدأت بالبحث في رفوفها الخشبية عن الكتب ذات المحتوى الغريب، إلاّ أنّني على ما يبدو كنت في تلك اللحظة أحتاج إلى الراحة جراء تراكم الكتب التي قرأتها في السابق، حيث أنّ عقلي لم يستسغ المؤلفات الموجودة في خانات المكتبة، حتى قطرات المطر المتساقطة وجو القراءة الجميل في تلك اللحظة لم يشكل أي دافعاً وحافزاً لي.
فجأة، وقعت عيناي على أحد الكتب المدفونة في زاوية المكتبة، وهذا الكتاب هو روايتنا التي سوف نتكلم عنها في السطور القادمة ’’جوستين‘‘.
كتابٌ صغير لا تتجاوز صفحاته المائتا صفحة، دفعني القدر لتصفح أوراقه وفي نهاية المطاف قررت شرائه على الرغم من سعره الباهظ نظرًا لحجمه الصغير، وللأسف دائمًا ما يواجه القارئ مشكلة كبيرة في الأسعار الباهظة لأغلب الكتب بسبب بعض الدخلاء على هذه المهنة الشريفة الذين لا يهمهم سوى الأموال، ولكني في النهاية ذَكرتُ نفسي بأن سعر الكتاب في محتواه وليس في عدد أوراقه.
ربما سبب اقتنائي هذا الكتاب، وصفه بالكتاب المريع الذي يستحث العقل، ووصف كاتبه بأكثر الشخصيات الملعونة في التاريخ، المنحرفة والمنتهكة للفضيلة، ولكن لكي أكون صادقًا السبب الرئيسي كان حجم الكتاب الصغير، لم أكن أرغب في إجهاد نفسي بالكتب الكبيرة وصعبة القراءة.
عن الرواية ’’جوستين‘‘ أو مصائب الفضيلة
إن كنت تشعر بأنّ العالم بأسره ضدك، أو إنّك تعيس الحظ، فما عليك سوى قراءة قصة بطلة روايتنا المسكينة ’’جوستين‘‘ لمعرفة ما هو المعنى الحقيقي للتعاسة وسوء الحظ، عندها سوف تهون عليك جميع مصائبك.
تتكون الرواية من 25 فصل، تبدأ الرواية بإهداء إلى امرأة هي من تستطيع أن تقدر عذوبة دموع الفضيلة، كما ذكر الكاتب، يأتي بعدها تصدير يشرح فيه الماركيز بعض المشاعر التي وجهت عمله هذا، يختمهُ باعتذار عما وضعه من فلسفات زائفة نقلها عن طريق شخوص الرواية، وما جلبه عليهم من مواقف مؤلمة.
تسرد الرواية قصة فتاة جميلة ساذجة تدعى ’’جوستين‘‘ وهي ابنة مصرفي ذو نفوذ وثروة في باريس، أختها الكبرى تدعى ’’جولييت‘‘ وهي فتاة جريئة وبارعة على الرغم من صغر سنها، ينتهي بهما المطاف مشردين بعد إفلاس والدهما ووفاته، تبعه وفاة والدتهما.
# صور الكاتب في مشهد تشرد الفتاتين جشع الإنسان وكيف كانا يحصلان على الرعاية التامة والمحبة من قبل الأقارب والأصحاب قبل أن يفقدوا ثروتهم، ثم كيف تم نبذهما وتجاهلهما بعد التغيير الحاصل في ثروة العائلة.
تبدأ مرحلة جديدة من حياة الفتاتين، حيث تنفصلان عن بعضهما، تختار ’’جولييت‘‘ طريق اللهو والبغاء، أمّا ’’جوستين‘‘ فتختار طريق الفضيلة المنبعثة من إيمانها التام بالرب، حريصة على ما هو أغلى من حياتها ’’شرفها وعفتها‘‘، إلاّ أنّها في النهاية سوف تدفع ثمن قرارها غاليًا، حيث تصبح منبوذة وفقيرة ويائسة تترجى عملًا من أجل أن تستطيع العيش، مما يجعلها فريسة لكل الساديين الذين تقابلهم. حيث تمر ’’جوستين‘‘ بالعديد من المصاعب والتعاسة، مع كل علامة جديدة للنجاة والخلاص من بؤسها تكتشف بأنّه كان مجرد سراب يختفي بعد اقترابها منه، ولعل شخصية الماركيز دو ساد تقبع خلف شخصية هذه الفتاة، حيث أصبح ساد عجوزًا معذبًا في فترة كتابته لهذه الرواية.
# تحتوي الرواية على نظرة فلسفية عميقة للرجل السادي، ونظرتهم إلى الحياة والمرأة، وتصور مشاهد التعذيب النفسي والجسدي الذي تتعرض له ’’جوستين‘‘ التي تجلب المتعة والذروة لهم مع كل قطرة دم تتساقط من الفتاة المسكينة.
لكن لماذا يستمتع الرجل السادي في التعذيب؟ إجابة هذا السؤال سوف تجده في الحوارات التي تدور بين شخصيات الرواية، في العادة تكون الحوارات طويلة وتحتاج إلى التركيز من أجل استيعابها، فعلى الرغم من اختياري لهذا الكتاب لصغر حجمه إلاّ أنني واجهت صعوبة كبيرة في قرائته وكأنّني أقرأ في عاصفة هوجاء، لكن أحداث الرواية واضحة تماماً ولا تحتوي على أي نوع من الغموض.
# أبدع الكاتب في اختيار شخصياته ونسب صفة السادية إليهم، حيث بدأ اختياراته من المجرمين امتداداً للكهنة وصولاً إلى أعلى الرجال مناصب ونفوذ في فرنسا.
عيوب الرواية لم تكن في محتواها بل كانت في الترجمة العربية، المترجم محمد عيد إبراهيم قام بترجمة الرواية من الإنجليزية، ولم يقم بترجمتها من لغتها الأم اللغة الفرنسية، لهذا السبب فإنّ الرواية المعرّبة كانت تحتوي على الكثير من الإيجاز التي تلبي حاجة القارئ السريعة فقط، وهذا ما يمكن ملاحظته عند مقارنة حجم الرواية المعرّبة بحجم الرواية الفرنسية الأصلية، بالإضافة إلى أنّ النسخة الفرنسية لم تقم بتجزئة الرواية إلى 25 فصلاً كما في النسخة العربية.
عن الكاتب، الماركيز دو ساد
في إحدى رسائله كتب دو ساد ’’ نعم، أنا ركبت المعاصي، وقد تخّيلت بكتابات كل ما يمكن تخيّله في هذا المجال، لكنني بالتأكيد لم أفعل كل ما تخيّلته ولن أفعل أبداً، أنا فاجر، لكنني لست مجرماً أو قاتلاً…”
يعتبر الماركيز دو ساد من أكثر الروائيين حرية على الإطلاق في أدبه الذي وصف بأنّه أدب المجون والخلاعة، حيث أنّ حياته كانت عامرة بالفضائح التي أولجت به في السجن لسنوات عديدة، أعماله لم تحصل على ذلك الاهتمام الكبير في يومنا الحالي.
ولد الماركيز في سنة 1740 لعائلة أرستقراطية فرنسية، كان ساد سياسياً ثورياً وفيلسوفاً وكاتباً، اشتهر بسبب فجوره.
أعماله الأدبية كتب أغلبها وهو في السجن، تضم مجموعة من الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات ودعايات سياسية، في فترة حياته تم نشر بعض أعماله تحت اسمه وبعضها الأخر كانت مجهولة نكر ساد أن يكون هو من كتبها.
# اشتهر ساد بمؤلفاته الشهوانية التي تجمع بين الخطاب الفلسفي والخلاعة، مع تشديدها على تصوير مشاهد العنف والإجرام وتكفير الكنيسة الكاثوليكية.
كان من دعاة الحرية القصوى والمبالغ فيها وغير المقيدة بالفضيلة أو الدين أو حتى القانون.
# من أشهر مؤلفاته الأخرى ’’أيام سدوم المائة والعشرون‘‘، ’’جرائم الحب‘‘، ’’ألين وفالكور‘‘، ’’جوليت، يسرد فيها قصة أخت جوستين الكبرى‘‘ .
اشتقت السادية اسمها منه، ولعل التعريف الأمثل لمصطلح السادية بأنها المتعة واللذة التي تنتج لدى المصاب بها عند إلحاق الأذى الجسدي والألم بالآخرين، سواء بصورة عامة أو في العلاقة الجنسية بصورة خاصة.
مجموعة من الاقتباسات التي تحتويها الرواية
اسألي الحمل، فلن يفهم لماذا يفترسه الذئب. لكن اسألي الذئب ما نفع الحمل، سيرد ’’ليغذيني‘‘.
الذئاب تلتهم الحملان، والضعفاء ضحايا الأقوياء.
الإنسان ولد حقاً أعزل أنانياً عنيفاً وطاغية؛ يريد كل شيء ولا يمنح شيئاً في المقابل، وسيقاوم دائماً للحفاظ على طموحة وحقوقه بالشرائع والدم.
فليعلم كل متراخٍ كسول، ليعلم كل فقير أنّ المساواة أخطر شيء على المجتمع.
لحظة الاستيقاظ هي الأشد رعباً للمبتلين، فالخيال يملأ الروح سريعاً، منتعشاً مفعماً من عذوبة النوم.