تجربة الخمس سنوات !

في جميع الإختبارات التي تصنّف الشخصيات، خصوصًا أشهرها وأفضلها MBTI، دائمًا ما كانت تُشير النتيجة إلى نفس الشخصية، الـ INTJ، فبالرغم من عدم دقة هذه المَقاييس إلا أنها كعلم النفس القائمة عليه تمامًا، يغلب عليها التخمين والكثير من الارتياب، كونهُ علم لا يُعامل على أنه تجريبي ويقبل الكثير مِن المطاطيّة في معطياته ومُخرجاته.

إلا أن السياق العام الذي تصنّف به وتُشير إليه الشخصية يكون صحيحًا، لا سيما أن الإختبار قائم على أسس علمية حقيقيّة وضعها كارل يونغ نفسه.

السمة الرئيسة لشخصية المهندس المعروفة اختصارًا بـ INTJ هي أنه إنسان استراتيجي يُحب التخطيط والدقة كثيرًا، وانطلاقًا مِن حياتي التي لم ألبس بها إلا ساعة اليد الرقميّة، ولم ألعب بها سوى لُعبتي «ريد اليرت» و«جينرال زيرو اور»، وهي أشهر الألعاب الاستراتيجية، أستطيع القول إني أميل كثيرًا لكوني هذه الشخصية فعلًا، الإنسان المهندس الذي يُحب المواعيد الدقيقة، السرعة في الحركة والتلقي والتنفيذ، وضع خطة لكل شيء، والالتزام والانضباط عمومًا بكل ما يفعله. 

فأكثر شيء يغيظني هو الإنسان البطيء المُرتخي، مائع المواعيد ثقيل الحركة بطيء الفهم، هذا الإنسان كارثة تفوق كل الكوارث كارثيةً.

مِن هذا المنطلق، ومِن منطلق أننا سنعيش حياة واحدة فقط وجب علينا استغلالها بأكثر طريقة مُفيدة، وضعت خطة قبل 5 سنوات تحديدًا تتلخص بعملية نحت من الجانبين الرئيسين للإنسان، النحت المادي والبناء الفكري أيضًا.

دون إهمال لأي جزء على حساب آخر، فالعلاقة بين مادة الإنسان وفكره هي علاقة لطالما نظرت إليها بنظرة التكامل، أكثر مِن كونها نظرة الصراع والخِصام.

الجزء الفكري يتمثل بزيادة الحصيلة المعرفية بالوسائل المتاحة، ومن ثمّ إخراجها على أشكال مختلفة، لعلَ أبرزها المقال والتدوين والمحتوى الموجّه إلى الناس المهتمة به. أما الجزء المادي فيتعلق بتدريب المركبة المسؤولة عن إعانة وإعالة كل إنسان حتى لحظة وفاته، وقبل أن تسقط جثته للأبد، وتُسحب علينا جميعًا ذيول النسيان والذكرى.

النتيجة الإجمالية لهذه السنوات الخمس هي الحصيلة المعرفية بعنصرها الفاعل الأكبر وهو القراءة تلخصت بحوالي 409 كتاب كنت قد قرأتها، أفرغتها بحوالي 120 مقال، قرأها قرابة الـ 3 مليون إنسان على هذا الموقع.

بالإضافة أيضًا إلى ، ست عضلات معدية معروفة بـ Six-Pack، وحزام أزرق في رياضة المرونة واللياقة العالية، رياضة الكيك بوكسينغ.

لمَ أقول كل هذا؟!

اعتدت ألا أكتب شيئًا إلا لأفيد فيه القارئ وأضعه كأولويّة، فغالبًا ما كنت أحيّد نفسي في كل مقال أكتبه واختفي وراء السطور منذ بداية المقدمة تقريبًا، إلا أني هنا سأرشد القارئ بما فعلته أنا، لذلك سأتحدث هنا بنصيحة واحدة تعلمتها وخرجت بها من السنوات الـ 5 التي مضت.

هذه النصيحة رغم بساطتها إلا أن القليل مَن يلتزم بها ويحصد نتائجها ذات التأثير العالي والواضح والمُباشر أيضًا.

فيا أيها الصديق القارئ، تحمّلني في هذه التدوينة 5 دقائق، لعلي أعطيك بها مُلخص 5 سنوات مضت من عمري، مُلخص توجزه النصيحة التالية التي تبلوّرت بشكل واضح في الآونة الأخيرة.

تعلّم فن أن تخرس!

على نمط فن اللامبالاة لصاحبه مارك مانسون، وعلى مثيل كتاب فن الحرب لسون تزو، لدينا هنا فن مِن نمط آخر، إلا أنه لا يقل أهميةً عنهم، وهنا أدقق أيضًا على كلمة «فن» كون أن كثير من الناس لا تتقنه، وهو فن الصمت! فن أن تغلق فمك! فن أن تخرس – اعذرني على الوقاحة هنا – ريثما تحقق ما تُريده وتحصد النتائج وتراها وتضعها في جيبك!

لماذا يجب أن تسكت؟

لأن الإنسان بطبعه كائن مغرور يُحب أن يُمدح على شيء يرى نفسه به دون أن يحققه ويصل إليه حتى! لذلك عندما تقول لأصدقائك أو أحد أقاربك أنك تُريد أن تفعل كذا وكذا وتخطط لفعل الأمر العظيم الفلاني، فإن احتمال تنفيذك له بعد ذلك ينخفض إلى أقل من النصف. لأنه بالحديث عنه، تكون قد حققت رغبتك الغير مُباشرة في البروز والغرور والانتفاخ أمام من حولك، لذلك يتجه عقلك بعدها تلقائيًا نحو الخمول وتعكف عما أردت فعله.

فلمَ تفعله بينما قد نلت ما أردت من وجاهة ومديح الناس بكلامك عنه!

ما جنيتهُ في آخر 5 سنوات يتمحور بشكل جوهري حول الصمت أثناء العمل والتنفيذ دون ضوضاء وصخب، فالذي قال أنّ العافية عشرة أجزاء تسعة منها في اعتزال الناس و واحدة في الصمت لم يكن مُخطئًا أبدًا بل لعله أصاب كبد وطحال الحقيقة.

الكتب التي طالعتها سأناقشها في مقال كامل منفصل، كون هذه التدوينة لا تسمح أن نُطيل كثيرًا، لكن أريد القول إني كنت أدوّن اسم كل كتاب واسم مؤلفه عندما انتهي منه، لا سيما أني أصبحت أنسى هل قرأت هذا أم لم أقرأه، لذلك الرقم 409 خالد في ذاكرتي ودفتري الذي أكتب عليه ما أكتب.

كل هذا كان دون أن أتكلم، ودون أن أستخدم موقع غودريدز، ودون أن أصور كُتبي، ودون أن أدخل في تحديات المليون كتاب كل سنة، هناك لذة في فعل هذا الأمر، لذة أن تفعل شيء جميل وسري دون أن يدري به أحد، فقط أنت وحدك!

لربما يكون الأمر شبيه جدًا بفتاة رقيقة تحبها، رومانسية العلاقة بأكملها تكمن في الخصوصية، أن تقول لها كلامًا لا تسمعهُ إلا هي فقط، ولا يدري به أحد، ولعلَ القراءة هنا نفس الأمر، أنت وهي فقط.

على الرغم من رسائل عديدة كانت قد طلبت مني اقتراحات مِن هنا وهناك، إلا أني دائمًا لا أحب أن أشير إلى شيء مُعين يُرجع إليه، بل أحاول أن أعرض الأفكار المهمة بشكل بسيط ومُبطّن ضمن كل مقال أكتبه، دون المحاولة للقيام بلفت نظر الناس بالمجلدات الضخمة والكتب العتيقة والسلاسل الرصينة المليئة بالغبار، ليسَ هناك داعٍ لكل هذا، أن نحاول أن ننفخ شخصياتنا على حساب رغبة الناس في المعرفة والتعلّم.

اِقرأ الكثير ووسّع أفقك المعرفي، زوّد ترسانتك اللغوية من الأفكار والمصطلحات. صدقني القراءة – الكتب المفيدة حقًا – ستصقل عقلك بشكل مُرعب، أساسًا الفرق الجوهري بين الإنسان والحيوان أن الإنسان يقرأ والحيوان لا يقرأ، لذلك اِقرأ يا صديق، لكن دائمًا اجعل الناس غائبين عنك في هذا المجال، العلاقة بينكم سرية كتلك الفتاة تمامًا، هناك لذة في أن تفعلها وحيدًا، ولا يدري بك أحد، على الأقل ريثما تنهي هدفك وتصل إلى بر فكري صلب تستطيع الوقوف عليه بشكل جيد.

أما بالنسبة للـ 120 مقال والتي على ذمة رئيس تحريرنا الجميل في هذه المجلة أنه قد قرأها حوالي 3 مليون إنسان، فيجب القول أنّها نتيجة عادية لأي إنسان يقرأ كثيرًا، يمكن تشبيه البشر بالمعادلات الكيمائيّة، مِن الطبيعي عند ادخال عناصر كيميائية في مُعادلة ما، أن نحصل على عناصر ومركبات في مَخارج هذه المعادلة، هذا أمر حتمي، والإنسان الذي يدخل إليه كتب كثيرة، لا بد أن يخرج مقالات وأفكار كثيرة أيضًا.

لذلك دائمًا ما أحب تعريف الكتابة على أنها أسلوب تفريغ فكري، الكاتب هو عبارة عن قارئ يقوم بالكتابة فقط لكيلا ينفجر عقله من تخمة الأفكار، هذا هو الأمر بإختصار.

الكتابة نتيجة حتمية للقراءة، فإن أردت أن تصبح كاتبًا عليك بالقراءة أولًا.

أما بالنسبة للجزء الرياضي والجانب المادي من تلك السنوات الخمس، فلقد كان مؤخرة الحدث الزمني الواقع، إلا أن هذا لا ينفي مدى أهميته، يُقال أنّ العقل السليم في الجسم السليم وهذا صحيح وواقعي، وإن أردنا أن نأخذ نفس المقياس في هذه العبارة ونشتق عبارة جديدة، فيمكنا القول: العقل الحاد المتطور في الجسم الحاد المتطور، والعقل البطيء المترهل، في الجسم البطيء المترهل.

[الاستثناءات دائمًا موجودة، لكن كخطوط عريضة الأمر يكون في غالبه صحيحًا]

مُمارسة الرياضة بشكل عام حدث لا أخفيه عن أحد، لكن متابعتي لممارسة رياضة الكيك بوكسينغ التي أوهمت الجميع أني قد تركتها حتى أهلي أنفسهم وأصدقائي لا يعرفون ذلك كانت هي الحدث الأكبر، لاسيما مع تحقيق نتائج ملموسة سنحكي عليها مُفصّلًا في مقال لاحق خاص، وتمثّل كل ذلك بالحصول على الحزام الأزرق فيها، وللعلم فهو حزام قوي إلى حد بعيد، ويسبق الأسود برتبتين فقط.

يعتمد تعلقي بالرياضة أيضًا في أنها تحتاج إلى انضباط في 90% مِن تدريبها، وهذا الأمر يقبع في صميمي، لذلك مِن الطبيعي أن أجد ضالتي الكبرى في التمرين وتحطيم الألياف العضلية ورفع مرونتها، ولعل هذا ما يدفع الإنسان للاستمرار في شيء ما وحيدًا لا يدري به أحد أنه يفعله، ولربما يحصد نتائج مُثمرة دون أن يراها أحد أيضًا.

ألم أقل لك أن هناك متعة في الأمر! متعة أن تفعل شيء بشكل سري ريثما تتحقق النتائج ولا تخبر به أحد! مُتعة أن يعتقد الجميع أنك لا تفعل بينما أنت تفعل!

الناس يفسدون الأشياء الجميلة كلها، حاول أن تبعدهم عن مسارك.

لربما هذا الأمر يُنفّذ بشكل واضح في موضوع الدراسة، إذ تجد الطلاب الأوغاد يدرسون ويتظاهرون بالعكس، رغم تفاهة المجال الذين يطبقون فيه هذه القاعدة إلا أنها لو شملت نواحي أخرى لحققت نتائج جميلة جدًا، إلا أنها تبقى حبيسة السلك الأكاديمي الذي بمجرد أن يلدغ الإنسان لن يشفى منه حتى يموت، فالجامعة والمدرسة أكتر مكان يُنمّط فيه الإنسان ويُمسخ، ولعلَ هؤلاء المُنمَّطون يمتد تنميطهم ليشمل جميع جوانب حياتهم مُهدرين بذلك الكثير من فرصهم الضائعة.

بإختصار، كان هذا مُلخص 5 سنوات أخيرة مررت بها وخرجت منها، وها أنا قد كتبت نتائجها في عنوان هذا المقال الذي شمل كتب كثيرة، مقالات عديدة، حزام قتالي، والكثير من الخبرة والتراكمات في شتى جوانب الحياة على اختلاف أصعدتها.

كيف حدث هذا بشكل مُفصّل؟ ما هي أهم الكتب والاقتراحات؟ ما هو النظام الغذائي والرياضة التي أتبناها؟ هذا كله ليس من المهم حاليًا، إلا أني أحببت أن أكتب هذه التدوينة فقط لآتيك بالفكرة المهمة بالمسيرة بأكملها للسنوات الخمس وليس للنتائج المتحققة، ألا وهي «فن الصمت»! فن إغلاق الفم وارجاع اللسان!

يُقال أنّ الإنسان الذكي هو ذاك الذي يتعلم مِن تجارب غيره ولا يقع بها، لذلك اقرأ هذه التدوينة و وفّر على نفسك العناء يا صديقي، وفّر على نفسك ما قد تستنتجه في 5 سنوات ماضية من العمر، السر يكمن في الصمت والسكون، نفّذ بشكل صامت دون أن تتكلم، قم بالفعل بشكل سري دون ضجيج، دون أن يراك أحد.

هناك لذة في فعل مثل هذه الأمور، الأمور التي تفعلها وتحصد نتائجها دون أن يراك أحد، كتلك الفتاة التي تُحبها تمامًا..


كتب PDF ، كتب و روايات PDF ، أفضل تجميعات الكتب، كتب عالمية مترجمة ، أحدث الروايات و الكتب العربية ،أفضل ترشيحات الكتب و الروايات، تجارب شخصية ، سير ذاتية .