الإبادة الجماعية للأرمن
سكن الشعب الأرمني منطقة القوقاز في أوراسيا لـ 3000 عامٍ تقريبًا، وكانت في فترة من الفترات كيانًا مستقلًا، وتعتبر أول دولةٍ في العالم تجعل المسيحية دينها الرسمي، وذلك في بداية القرن الرابع ميلادي. وعلى ما يبدو، فإن السيطرة على الجزء الأكبر من هذه المنطقة قد انتقل من إمبراطورية إلى أُخرى، واستمر الوضع هكذا حتى بداية القرن الخامس عشر ميلادي، حين وقعت تحت حكم الإمبراطورية العثمانية القوية.
وفي ظل الحكم العثماني، سمح الحكام العثمانيون للأقليات الدينية كالمسيحيين الأرمن بالحفاظ على بعض أشكال الحكم الذاتي، إلا أنهم طالبوهم بدفع ضرائب أكبر من المسلمين أو ما يُعرف بالجزية، ومنحوهم كذلك القليل جدًّا من الحقوق السياسية والقانونية، باعتبارهم “كفّار”. وعلى الرغم من هذه العقبات، إلا أنّ المجتمع الأرمني قد ازدهر تحت الحكم العثماني، وأصبح الأرمن أفضل تعليمًا وأكثر ثراءً من جيرانهم الأتراك.
الدوافع
هذا التفوق الأرمني أثار استياء الأتراك، ومما زاد الطين بلّةً هي تلك الشكوك التي تدّعي أنّ الأرمن سيكونون أكثر ولاءً للحكومات المسيحية كالروس مثلًا، خاصّةً أنّ الروس كانوا يتشاركون مع تركيا حدودًا غير مستقرة، وقد زادت هذه الشكوك حدّةً مع انهيار الإمبراطورية العثمانية.
وفي نهاية القرن التاسع عشر، أعلن السلطان التركي عبد الحميد الثاني والذي كان مهووسًا بالولاء قبل كل شيء، والغاضب من الحملة الأرمنية الثورية والناشئة لكسب الحقوق المدنية الأساسية، أعلن بأنه سيحلّ “المسألة الأرمنية” مرّة واحدةً وإلى الأبد، ثم تجسّد هذا التصريح على أرض الواقع بمذبحة صادقت الدولة عليها، ما بين 1894 و 1896، والتي أتت كردٍ على احتجاجات الأرمن واسعة النطاق. حيث قام المسؤولون العسكريون الأتراك والجنود وحتى الرجال العاديون بنهب المدن والقرى الأرمنية، وذبح وقتل مئات الآلاف من الأرمن.
لكن الإبادة الحقيقة لم تحصل في زمن السلطان عبد الحميد وإنما في زمنٍ آخر، إذ وبحلول عام 1908، أطاحت مجموعة من الإصلاحيين أطلقوا على أنفسهم اسم “الشباب الأتراك” بالسلطان عبد الحميد الثاني، ووصلوا إلى الحكم وأسسوا حكومة دستورية أكثر حداثة. وقد أمِل الأرمن حينها أن يحوزوا على مكانة متساوية في الدولة الجديدة، لكنهم سرعان ما أدركوا أنّ أكثر ما يرغب به الشباب الأتراك هو “إضفاء الطابع التركي” على الإمبراطورية، لذا وبالطبع فإنّ غير الأتراك، أو المسيحيون غير الأتراك، هم أكثر التهديدات خطرًا بالنسبة للدولة الجديدة.
في عام 1914، دخل الأتراك الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية، وفي الوقت نفسه، أعلنت السلطات الدينية العثمانية الحرب المقدّسة ضدّ جميع المسيحيين باستثناء حلفائهم. ثم بدأ القادة العسكريون بالنقاش فيما إذا كان الأرمن خونة؛ إذ اعتقدوا أنهم سينالون الاستقلال في حال انتصر الحلفاء في الحرب. بل ذهب الجدال مدىً أبعد، وافترضوا أنّ الأرمن سيحرصون على القتال إلى جانب العدو.
وفي النهاية، قد تكون لهذه الهواجس شيء من الصِّحة، فمع اشتداد الحرب، نظم الأرمن كتائب متطوعة لمساعدة الجيش الروسي في قتاله ضد الأتراك في منطقة القوقاز. بالتالي، دفعت هذه الأحداث بالإضافة إلى شكّ الأتراك بولاء الشعب الأرمني أساسًا الحكومة التركية إلى بذل المزيد من الجهد لإبعاد الأرمن من مناطق الحرب على طول الجبهة الشرقية.
تنفيذ الإبادة
في الرابع والعشرين من نيسان عام 1915، بدأت مأساة الأرمن. في ذلك اليوم، تمّ اعتقال وإعدام مئاتٌ من المثقفين الأرمن، ثم طُرِد الناس العاديون من بيوتهم، وأُجبِروا على السير في مسيرات “الموت” عبر الصحراء الممتدة ما بين نهري دجلة والفرات دون طعامٍ أو مياه.
وعلى الرغم من التقارير المتضاربة، إلّا أنّ معظم المصادر تتفق على أن عدد الأرمن الذين كانوا موجودين في الإمبراطورية العثمانية في وقت المجزرة كان حوالي 2 مليون إنسان، وفي عام 1922، عندما انتهت الإبادة الجماعية، لم يكن عدد المتبقين منهم في الإمبراطورية العثمانية سوى 388000 شخص، فأين اختفى الباقي؟2
انتهاء الإبادة وبداية الإنكارعلى كلّ الأحوال، هناك اتفاق عامٌ على وفاة مئات الألوف من الأرمن قتلًا أو جوعًا أو تعبًا أو مرضًا، وذلك عندما قام العثمانيون بترحيلهم بشكل جماعي من شرق الأناضول إلى الصحراء السورية عامي 1915 و1916، لكنّ العدد الإجمالي للقتلى لا يزال محط نزاعٍ شديد؛ إذ يقول الأرمن أن 1.5 مليون أرمنيًا قد قُتلوا، في حين تقدّر تركيا عدد القتلى الإجمالي بـ 300,000 شخص.
وكما يُقال فإنّ إنكار المجزرة هي المرحلة الأخيرة من تنفيذها. إذ لا تزال الحكومة التركية تنفي وقوع الإبادة الجماعية، وتقاوم الدعوات واسعة النطاق التي تطالبها بالاعتراف بعمليات القتل تلك، بل إنها تدعيّ أنّ الأرمن كانوا قوّةً معادية، وذبحهم كان إجراءً ضروريًا للحرب. وعلى الرغم من أنّ مجلس النواب الأمريكي قد صوّت عام 2019 على الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، إلا أنّ تركيا قد استنكرت التصويت وأدانته ووصفته كخطوة سياسية لا معنى لها. وربما من الأمور التي جعلت أمريكا تماطل في هذا القرار هو أنها تعتبر تركيا حليفًا مهمًا للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وتخشى خسارته أو إغضابه.
الإبادة الجماعية بالتجويع في أوكرانيالطالما تفنّن الزعماء والحكومات في ابتكار طرقٍ جديدةٍ في التعذيب أو القتل، لذلك لا نستغرب وجود مجازر أو عمليات إبادة تحصد أرواح آلاف البشر ودون سفك نقطة واحدةٍ من الدماء. فمثلًا هناك الـ”هولودومور” أو الإبادة الجماعية بالتجويع، وهي مجاعة من صنع الإنسان لقتل الإنسان.
هزت هذه المجاعة جمهورية أوكرانيا السوفييتية عامي 1932 و1933، وبلغت شدتها في أواخر ربيع عام 1933. وعلى الرغم من أنها كانت جزءًا من مجاعة سوفيتية جماعية واسعة النطاق في مناطق زراعة الحبوب في روسيا السوفيتية وكازاخستان، امتدت من 1931 حتى 1934، إلا أنّ المجاعة الأوكرانية كانت أكثر فتكًا، خصوصًا وأنّ المراسيم والقرارات السياسية كانت تستهدف على الأغلب أو ربما على وجه التحديد أوكرانيا فقط.
الدوافعيمكن القول إن سبب المشكلة قد لاح بالأفق عندما قرر الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين إنشاء المزارع الجماعية؛ وهي سياسة تبنتها الحكومة السوفييتية، تقوم على تحويل الزراعة التقليدية إلى نظام المزارع الجماعية، بحيث يُجبَر الفلاحون على التخليّ عن أراضيهم وممتلكاتهم الشخصية ومساكنهم أحيانًا، والانضمام إلى المزارع الجماعية الكبيرة، وإضعاف القوة الاقتصادية للمزارعين ميسوري الحال وترحيلهم، بالإضافة إلى ترحيل الفلاحين الذين رفضوا فكرة المزارع الجماعية.
أدى نظام المزارع الجماعية هذا إلى انخفاض الإنتاج، وعدم تنظيم الاقتصاد الريفي، ونقص الغذاء. وأشعل كذلك سلسلةً من الحركات التمردية الفلاحية، بما في ذلك انتفاضات مسلحة، في بعض أجزاء أوكرانيا. وقد أثارت هذه الثورات قلق ستالين، خصوصًا أنها تشكلت في المقاطعات التي قاتلت قبل عقدٍ من الزمن ضد الجيش الأحمر خلال الحرب الأهلية الروسية، كما زاد قلقه من غضب ومقاومة الحزب الشيوعي الأوكراني لسياسة الدولة الزراعية. لذلك وخوفًا من خسارة أوكرانيا، اتخذّ المكتب السياسي السوفييتي، قيادة نخبة الحزب الشيوعي السوفييتي، سلسلةً من القرارات التي وسعت المجاعة وزادت شدتها في الريف الأوكراني، فتم وضع العديد من المزارع والقرى والمدن بأكملها في أوكرانيا على القوائم السوداء، ومنعها من تلقي الطعام.
على الرغم من الجوع المتزايد، وازدياد الطلب على الموارد الغذائية إلا أنّ المساعدات لم تقدّم بالكمية الكافية. ثم وصلت الأزمة إلى ذروتها في شتاء 1932، عندما قامت مجموعات منظمّة من الشرطة والشيوعيين بنهب وسلب منازل الفلاحين، فأخذوا كل ما يصلح للأكل، من محاصيل ومُؤَنٍ غذائية وحتى الحيوانات الأليفة.
والحصيلة، لقيَ ما لا يقل عن 5 مليون شخص حتفه بين عامي 1931 و1934، منهم 3.9 مليون أوكراني، وذلك استنادًا إلى ما بينّه علماء الديموغرافيا الأوكرانيين. تم دفن الجثث في مقابر جماعية في جميع أنحاء الريف، كما أثّر على سكان المدن ولو أن العديد منهم قد تمكّن من النجاة بسبب البطاقات التموينية. ومع ذلك، فقد انتشرت الجثث في شوارع أكبر المدن الأوكرانية، وكثرت وشاعت عمليات النهب والسرقة وسُجلت العديد من الحالات لآكلي لحوم البشر.
بالإضافة إلى ذلك، فقد رافق المجاعة هجوم أوسع على الهوية الأوكرانية؛ فبينما كان الفلاحون يموتون بالملايين، كان عملاء الشرطة السرية السوفييتية يستهدفون المؤسسة السياسية الأوكرانية والمثقفين ورجال الدين الأوكرانيين وغيرهم. ولا بد أن نذكر أن مناقشة هذه الإبادة كان من المحرمات، وقد أنكرها الكرملين رسميًا لأكثر من نصف قرن. أما أول ذكرٍ لها في الاتحاد السوفييتي كان عام 1986، أعقاب الكارثة التي حلت بمحطة الطاقة النووية تشرنوبل، والتي بدورها أُبقِيت سرية في البداية من قبل السلطات السوفييتية.