يتحدث الفيلسوف الفرنسي آلان دي بوتون عن نمط جديد من الإلحاد وجبَ وضعه مكان النمط السائد حاليًا المعروف بالإلحاد الجديد والمُتبنى مِن قبل أسماء شهيرة كفيكتور ستينغر وريتشارد دوكنز وغيرهم مِن الشخصيات، الذي يتميّز ليس بإقصائه الشديد للإله فقط ككيان ميتافيزيقي مُتعالي عن الوجود، بل للحزمة الفلسفية الدينية بكاملها مع ما يصاحبها من عادات وتقاليد وحتى ظروف تاريخية.
ما يدعو إليه دي بوتون هو ما أطلق عليه لقب «الإلحاد الإصدار الثاني V0.2» وهو باختصار شديد الحفاظ على القيم الدينية والفلسفية والعادات كونها تشكّل ركيزة مهمة في دعائم بقاء أي مُجتمع وتطوّره، أما الإله بوصفهِ قضية فوق وجودية مُتعالية، أمر غير مهم معرفة إجابته، أساسًا معظم المتدينين لا يبالون بقضية الإله بقدر مبالاتهم بعادات الدين وسياقاته الاجتماعية، فالمهم إدراك أهمية القيم الدينية في الحياة العامة وما يأتي معها من عادات وتقاليد وركائز أخرى، ولعلَ هذا ما يعمل جوردان بيترسون -في الجانب الغربي- على إيصاله في غالبية أفكاره التي يطرحها.
يدور الجدل في وقتنا الحالي، أن الانسلاخ عن البيئة العربية وبشكل خاص الجانب الديني منها يعقبه دخول في الإلحاد العدمي. وهنا لا نتحدث أبدًا عن الإله كموقف شخصي سواءً نفي الوجود أو الإثبات، بل عن نمط من «الإلحاد النافي» ليسَ فقط للإله إنما للعادات والتقاليد وبتر كل جذر يمت بصلة للمنطقة. بحيث أنك لا تتخلى فقط عن شخصية الإله -التي هي الشاغل الرئيس لتعريف الإلحاد بكامله- بل يتخلى عن بيئته العربية بكاملها ويصبح يبحث في اختبارات تحديد النسب حول أي بارقة تنفي عنه العروبة أو أنه ابن هذه المنطقة.
يعتقد البعض أن العادات المُمارسة هنا مجرد رفاهية لا بد من رميها وراء الظهر، وكأن الذي اخترعها وطبقها كان يجلس في تجمّع مِن الناس فخطرت على بالهِ عادة وقال لنتبناها إذًا! ليس هكذا أبدًا. نعم هناك عادات سلبية سيئة لا ننفي ذلك، لكن يجب أن نعلم أن نشأة هذه العادات وبقاءها لقرون عديدة مِن الزمن كان لحاجة ماسة حقيقية إليها كونها حققت نجاحًا ووفرت جهدًا لفترة مُعتبرة.
لاحظوا عدم بروز الخلل إلا في العصر الجديد عندما انطلقت فلسفة الحداثة. حينها ظهرت النُظم الحديثة لا سيما الليبرالية لتدلي بدلوها الجديد تحت مُسميات الإنسانية وحقوق الفرد.. إلخ. حالت محل تلك العادات والتقاليد مزيحةً إياها عن الواجهة. إلا أن هذه النُظم لا سيما في الفترة الأخيرة (فترة كورونا تحديدًا) تبيّن أنها أنظمة هشة لم تقاوم أبسط الأخطار مقارنة بالمقاومات المرعبة التي حققتها تلك العادات العتيدة التي أصبحت الآن تُوصف بأنها «رجعية وتقليدية وعفى عليها الزمن».
وصلَ الإنسان الحديث لدرجة من «الأناركية» وليس الحرية لم يعد يمكن تخيلها. في السابق كانت رغبته فيها إما بسبب وجود ضغط ديني أو سياسي، أما الآن فأصبحت نزوتهُ أقرب ما تكون لإحداث فتق في نسيج كبير مُنسجم، فبدل أن يقوم النسيج بنبذ ذلك «العيب» فيه، بات الآن يتقبله ويقول دعوه وشأنه، إنّ لهُ الحرية في فعل ما يشاء.
وأنا متفق مع ذلك، له الحرية كفرد نعم، لكن يجب هو نفسه أن يعلم أنه في سياق المجتمع ككل هو غير مهم وخارج عن الوضع الطبيعي، وأنّ عقد اتفاقية سلام غير معلنة لا يعني التقبل، يعني فقط أنهم يمارسون سلامًا زائفًا ريثما تأتي أقرب جائحة لتفتك بهذه الاستقرار الكرتوني، وكورونا الرائع ضرب لنا تصوّرًا واضحًا في هذا.
فمثلًا، جميعنا رأينا كيف أن الصين حظرت أكل القطط والكلاب بعد أزمة كورونا وأنها اعتبرت هذه الحيوانات من قائمة الكائنات الأليفة. ما هي النقطة المهمة هنا؟ النقطة هي أنه تم تعديل القانون بما يتناسب مع الظروف الجديدة، وهذه هي فكرة نشوء القوانين منذ الأزل. لا تهبط القوانين من السماء، هي فقط تعطي الإطار والتصريح الرسمي لشيء يُمارس من قبل العوام، ولا يحدث التدخل النخبوي إلا في حال الكوارث والأوبئة والمسير في طريق خاطئ.
هناك فرق بين الحرية كعمل فردي شخصي وهي ما لا مشكلة معها أبدًا، والحرية كنقطة سوداء ضمن النسيج المجتمعي. في الحقيقة، تبيّن على المدى الطويل أن المجتمعات المحافظة هي التي تبقى وتدوم لذلك قيل دائمًا أن الفكر اليساري التحرري هو عمل قلبي بينما الفكر اليميني المُحافظ هو عمل عقلاني. إذ ينجح اليسار على المدى القصير بينما اليمين المتحفظ يزدهر على المدى الطويل. لذلك مثلًا نجد الشعوب الشرقية بعمومها محافظة حتى تلك الحديثة منها كاليابان وكوريا الجنوبية، إذ لا تقبل هذه الدول لا الغرباء ولا اللاجئين وتمارس أنواعًا عدّة من العنصرية، إلا أنها بذلك تحافظ على هويتها، فاليابانيون سيبقون في اليابان لقرون قادمة، لكن تخيل معي شكل السويد في عام 2500 مثلًا كيف سيكون؟ ربما ستكون أصبحت اللغة العربية رسمية فيها، وأكرر مرة أخرى منطلقي هنا للكلام هو منطلق مجتمعي عام في سياق كبير وليس على المستوى الصغير الشخصي المتعلق بحقوق الفرد الشخصية.
لم تنشأ عادات المجتمعات من فراغ بل من حاجة، ولعلَ هنا يكمن سر البعض في الاستماتة للدفاع عنها والتمسك بها. وحتى تعرفوا لماذا من حاجة وليسَ رفاهية.