“لكي نفهم مثل ذلك الكون نحتاج إلى مخ حجمه يماثل على الأقل حجم الكون نفسه”
هل هي جملة حقيقية أم لا؟ وما قدرات العقل الاستيعابية؟ وما هي حدود معرفتنا وفهمنا لهذا الكون؟
كل هذه الأسئلة الكفيلة بجعلك تقف مدهوشًا أمامها كان قد أجاب عنها “كارل ساغان” في طريق إجابته على سؤال واحد، ألا وهو.
هل نستطيع أن نتعرف على الكون من خلال حبة ملح؟!
حسنًا لنرى…
حبة ملح
أولاً: لنسرد ما نحتاجه من أجل معرفة تفصيلية وجوهرية عن حبة الملح خاصتنا تلك:
– ميكروجرام واحد من ملح الطعام، وهو حبة أو بلورة يستطيع بالكاد شخص ذو نظر ثاقب أن يراها بالعين المجردة دون اللجوء إلى المجهر، تحتوي 10^16 من ذرات الصوديوم والكلورين (10 مليون بليون ذرة).
– كما يجب أن نعرف الأوضاع ثلاثية الأبعاد لكل ذرة من تلك الذرات.
– ورغم أهمية معرفة أنواع الروابط بين تلك الذرات، وبعضها البعض في نفس الجزيء وطبيعة القوى التي تربط كل جزيء بآخر، وغيرها من المعلومات فلن نلقي لها بالًا لتكون حساباتنا مبسطة أكثر.
– وأخيرًا مخ لاستيعاب تلك المعلومات.
الآن ما هي قدرات المخ الاستيعابية؟
أو هل هذا العدد أكثر من عدد المعلومات التي يستطيع المخ استيعابها أم أقل منها؟
وصلات المخ
بالمخ نحو 10^11 من الخلايا العصبية، ولكل خلية عصبية نحو ألف من الأسلاك الدقيقة التي توصل الخلايا ببعضها البعض، وبفرض أنّ كل واحدة من تلك الوصلات تقابل واحدة من المعلومات أي تستطيع استيعاب واحدة من تلك المعلومات، فإنّ مجمل المعلومات التي يحتفظ بها المخ على الأكثر 10^14 (100 تريليون)، وهو عدد لا يمثل إلاّ 1% من عدد المعلومات الموجودة في حبة الملح.
إذا كان المخ عاجزًا عن استيعاب المعلومات الخاصة بحبة ملح كاملة، فما بالكم بكون هائل يحتوي 10^80 من الجسيمات الأساسية إذا كانت في فوضى عارمة؟
الكون صعب المنال ومنيع لدرجة مدهشة ضد أي محاولات يقوم بها العقل لمعرفته معرفة تفصيلية وجوهرية؛ لذا فلفهم واستيعاب كل مثل ذلك الكون كعناصر منفصلة، فنحن بحاجة لمخ حجمه على الأقل يماثل حجم الكون!
نعم وحتى من غير المحتمل أن يحتوي كون قائم على الفوضى كهذا حياة أو استقرار، وحتى لو وجدت كائنات أكثر ذكاءً منا في كون أكثر عشوائية، فعلى الأرجح لن يكون عندهم معارف كبيرة أو عواطف أو سعادة.
ما حدود معرفتنا وفهمنا للكون؟
الكون
إذا نظرنا بعمق لحبة الملح، سنجد أنّ الملح عبارة عن شبكة بلورية ضخمة من ذرات الصوديوم، والكلورين مصفوفة وفق نظام شديد الدقة من تبادل تلك الذرات الموجودة في أماكن محددة سلفًا (إلا في حالة وجود عيوب في تكوين شبكة البلورة).
وبالتالي بعد ملاحظة التتابع والتكرارية، أو النظام الذي تترتب به الذرات في الشبكة البلورية، فكل جزيء في بلورة ملح يحمل نحو 10 كسرات من المعلومات، وهي كمية لا ترهق قدرات المخ الاستيعابية.
وحيث أنّه من أهم وأجمل الحقائق أنّ للكون كله قوانين طبيعية تحكم سلوكياته تمامًا كمثل الانتظام المتحكم في حبة الملح، فمن البديهي استنتاج أنّه مهما كثرت تلك القوانين، ومهما بلغت درجة تعقيدها، ومهما فاقت أعدادها قدرات العقل الاستيعابية أن يصبح الكون قابلًا لأن يُعرف ويُفهم، ذلك أنّنا نستطيع تخزين أو الاحتفاظ بفائض تلك المعلومات خارج عقولنا في الكتب، ذاكرة الحواسيب الآلية…. إلخ.
المجرة
ومن هنا جاء تعريف كارل ساغان ومن قبله آينشتاين للعلم بأنّه:
طريقة للتفكير أكثر مما هو مجموعة معارف، وهو يبني على التجربة والرغبة في تحدي المفاهيم الجامدة القديمة، وبذلك فهو يتطلب شجاعة كبيرة وجرأة على الشك فيما هو موروث وتقليدي (فحدسنا ليس معصومًا من الخطأ)، ووسيلته الأساسية هي التساؤل المنطقي، والتفكير النقدي في كل ما هو موجود ويحدث، وتفسيره لمعرفة سبب حقيقي له.
فالعلم أن نعرف ونفهم كيف يعمل العالم، أن نستكشف ونلاحظ ونفكر، نتأمل ونتعمق حتى نصل إلى ما يربط الأشياء بعضها ببعض من قوانين…
وبالنهاية… فإنّ (هل نستطيع أن نفهم الكون من خلال حبة ملح؟) هو طرح “لكارل ساغان”، كان قد ترجمه د.”أمين توفيق” في كتابه (رومانسية العلم) وأراه من أكثر الأفكار تميزًا واستحقاقًا لأن تكون أمامكم.