الكثير من الحُبّ ولا عائد!

عصر الحب.. لا أعلم إن كان “نجيب محفوظ“، باختياره هذا العنوان، يتهكم من الزمن وتبدل أحواله، أو أنه يعرّض بذلك الحب الذي لا يعول عليه.

يبدو العنوان مناقضًا لنصّ مشحون بالبغضاء في كل صورها، لكن الوقائع تجري بالفعل في زمن لا يعاني من ندرة الحب: حب عين لابنها وحبه لها بالمقابل، حب عزت لبدرية، حب بدرية لحمدون وحبه لها، حب سيدة لعزت، حب عزت لابنه، والحب بين عزت وحمدون.

حب الأصدقاء وحب المراهقة والحب الفطري وحب السيادة وحب العبادة وحب المسرح وحب الوطن… حب قد يخفف من حرارة الأجواء لكنه لا يعترض المقدور أبدًا.

عصر الحب من منظور نجيب محفوظ

البداية.. نشر “نجيب محفوظ” روايته “عصر الحب” عام 1980.

هي من طبقة الروايات الأخيرة التي توحي نوعًا بأن الرجل قال الكثير ولم يعد بجيوبه مثل الذي أنفق، ولعله زاهد في المواصلة بعض الشيء أيضًا.

الحقيقة أن هذا منح هذه النصوص -مع قصرها- مزاجًا مختلفًا تمامًا.

بخلاف الروايات الطويلة الأكثر شهرة: (الحرافيش، الثلاثية، خان الخليلي، السراب) تتميز الروايات القصيرة بنكهة خاصة.

ليس ثمة مماطلة في الأحداث أو بحث متكلف في أعماق المواقف. مختصر مفيد كما نقول، معبر عن الفكرة بأقصر الطرق ومخلص للشخصية الرئيسية بالكامل.

بدون أي نقد ظاهر، يسعى “نجيب محفوظ” لعرض الواقع عاريًا كما هو. يعطيك هذا انطباع مشاهدة فيلم خالٍ من المؤثرات الموسيقية بأنواعها.

سلوكيات السيدة عين، حواراتها مع ابنها، شيخ الكتاب وطريقته في التدريس، مجرى الأمور في الحارة.. لا يتوقف “محفوظ” ليخبرك بالصواب من الخطأ، ولا يبدو معنيًا بإدراج تلميحات خفية لمواقفه من الشخصيات وأفعالها. الرجل يشاهد ما يحدث كما هو حال القارئ بالضبط. وعندما تحين اللحظة المناسبة يكون مستعدًا للتعبير عما يدور في الرؤوس والصدور.

أعمال نجيب محفوظ

عينٌ تراك

هل تعبر السيدة عين عن الأم المثالية؟

لاK عين مخلصة قانتة كثيرة الإنفاق، لكن هل يعني هذا بالضرورة أنها أم ممتازة؟ هل يؤدي هذا بشكل مؤكد إلى اتخاذ قرارات سليمة إزاء المواقف المحورية في حياة عزت؟

الواقع أن عين تمثل أفضل تعبير عن الوالد في مجتمع لا يملك رفاهية الاهتمام بالتربية.

إنها تسبح مع التيار وتعبر عما يجب أن تعبر عنه امرأة في ظروفها، تتعامل مع المشاكل إذا وقعت دون استباق وتتعلم التربية من خلال التجربة المدعومة بتراكم تراثي غير منقح. مع بعض التدقيق يمكن الوصول إلى أسئلة من نوعية: ألا تبدو لك مبالغة في الحماية؟ أليست شديدة التدليل لوحيدها؟ وباعتبارها منقطعة عن الرجال ومتفرغة تقريبًا للعبادة، أي كمٍّ أورثها هذا من الصفات التي انعكست بطبيعة الحال على علاقتها بعزت وتشكله النفسي التدريجي؟ يستطيع القارئ –إن أراد– تكوين رأيه الخاص عن عين الأم بتحليل موقفين أساسيين؛ الأول رغبة ابنها في الزواج من بدرية، والثاني تزويجه بسيدة.

لكن هذا يقود دومًا للمعضلة الكونية القديمة: أي درجة مئوية من المسؤولية عما آل إليه عزت تتحمله هذه المرأة؟

ربما لحاجة “محفوظ” لإلقاء بعض الضوء (وإن كان باهتًا) على هذا الأمر، فقد ذكر لنا ما تعتقده الأجيال الجديدة بشأن السيدة عين. بعضهم ينكر وجودها وبعضهم يؤكد أن هذا العرض لا يخلو من تسطيح، آخرون يؤكدون أن الإحسان على صورته هذه لعبة من ألعاب الأنانية ودليل على هوس بالإحسان لا يمكن أن يكون صحيًا. هل كان “محفوظ”، كشأن غيره من الكتاب، يشعر بضرورة انتقاد نفسه؟ كأنما شعر بأن شخصية بهذه المثالية عسيرة على التصديق ما لم يدافع عنها؟ ربما هي حاجة الكاتب المعتادة إلى تبرير نفسه للقارئ.

“ما أكثر الذي يحومون حول حياتك الجنسية يا عين. ما أكثر الذي ينقبون لك عن فضيحة في حفائر الذكريات.”

هذه بالتأكيد لفتة هامشية عن تعامل الناس مع الخير وصعوبة ابتلاعهم له ما لم يعايشوه. لكن لو فرض أننا بالفعل عثرنا على ما يؤكد بشرية عين وينفي ملائكيتها، هل يؤثر هذا شيئًا في النظر إلى أدائها لدور الأم؟ عين مع ذلك ليست بطلة القصة، وهي عندي ليست سوى خلفية ممهدة لرسم شخصية عزت.

ما الذي يحاول نجيب محفوظ إخبارنا به؟

إحدى اللعنات الملازمة لكون المرء كاتبًا عالميًا كبيرًا (وهي ضريبة عادلة تقريبًا) أن القارئ يفترض دائمًا أنك أعمق مما تبدو. لا بد أن ثمة رسائل مخفية وحكمًا شديدة الخطورة والكثير من الرموز. كلما علا قدر الكاتب وازدادت أهميته فقد بالمقابل قدرته على أن يكتفي بمجرد الحكي.

وإذًا، ما المغزى من هذا كله؟ يتفتق هذا السؤال العام عن حفنة من الأسئلة الصغيرة: لماذا انتهى عزت إلى التيه مع توفر كل مقومات السعادة؟ هل انتهى كذلك بسبب توفر كل مقومات السعادة؟ ما الذي يعبر عنه رجوعه إلى الحارة ليجد عين عمياء صماء، لكن حاضرة البدن والعقل واللسان؟ لماذا لم ينقذ القرآن عزت وقد تعلمه من الصغر؟ ما الخطأ الرئيسي الذي اقترفه عزت في حياته فأدى إلى تساقط بقية قطع الدومينو بتتابع محتوم: تبليغه عن حمدون، أم حبه لبدرية، أم تركها تفلت من يديه، أم غلطته مع سيدة، أم عقدة الذنب التي لازمته منذ أبلغ الشرطة؟

أنا شخصيًا أحب أن أتخيل “نجيب محفوظ” غير مبال تقريبًا، مهتما في المقام الأول بتحويل ما رآه في الحارة إلى قصص.

الرجل حكّاء وأولويته الأولى الشخصية، لا بما تعبر عنه من عِبَر بل بما تمثله فردانيتها وبصمتها الخاصة.

هذا متسق بصراحة مع تصوري عن الشخصيات الأدبية وعجزها (في الأغلب) عن التعبير عما يفوق ذواتها من القضايا والمعاني.

أنا متأكد من أن عزت كان ينبض بالحياة في ذهن الكاتب، وأنه كان مبهورًا بتحولات القصة (مقتل يوسف راضي، خروج حمدون من السجن، معرفته بالسر، لقاء عزت وبدرية بعد سنين من الفراق، العودة الدرامية للحارة) أكثر من أي شيء آخر. لاحظ أنه اختار بدء كثير من الفقرات بقوله: “يقول الراوي”.. إنه مجرد شخص رأى حوادث فسجلها، “خلاصة أصوات مهموسة أو مرتفعة تحركها رغبة جامحة في تخليد بعض الذكريات”. مع ذلك فلا أرى مانعًا من محاولة الإجابة على بعض الأسئلة التي يطرحها العمل.

عزت

الجزء الأوضح بالنسبة لي في شخصية عزت –بعد تدميره الذاتي– هو قدرته على الاكتفاء، ما يجعله مغايرًا (مثلًا) لبطل رواية الشحاذ الذي لم يهده بحثه على طول الرواية إلى مستراح إلا كان مؤقتًا. في المقابل نحن نعرف أن عزت كان سعيدًا برجوع ابنه لحياته، نعرف أيضًا أنه وجد ذاته في نجاح المسرح، بالطبع ساعد على ذلك ابتعاده عن عين التي كانت قابعة في مركز بصره ممثلة رمزًا للكمال يصعب مضاهاته.

الملاحظ أن رواية “عصر الحب” تبقيك متأهبًا بحجز إجابات الأسئلة عنك، فنحن لا نعرف إن كان الحصول على بدرية كان ليكفيه ويمنحه السكون لأن هذا لم يقع.. ابنه خرج من الصورة لأسباب قهرية ونجاح المسرح سرعان ما تبخر.

إن طبيعة هذه العملية؛ أعني محاولة البحث عن علل البطل وإيجاد علاج لمشاكله، هي مصدر كل هذه الأسئلة.

فيما يستطيع القارئ –غير ملوم– أن يكتفي بالنظر إلى عزت باعتباره صورة مألوفة من صور الحياة المحيطة بنا والمتوافرة بكثرة. إنما يعود هذا الشعور بشذوذه وفشله إلى ما فعله الكاتب (وهو مفهوم الرواية) من تكديس حياة كاملة في مائة وخمسين صفحة.

لا أحاول هنا التقليل من شأن النص الخاص برواية “عصر الحب” أو إفراغه من معناه، لكن الواقع أن محاكمة الشخصية إنما تتم طبقًا لمسار قرره الكاتب مسبقًا، وهذا المسار ليس عسير التغيير في الحقيقة، ما يعني أننا إنما نحاكم احتمالًا تخيره الكاتب من بين حفنة من الاحتمالات لا فضل لأحدها على غيره. فمثلًا: هل كان يمكن أن يقع عزت في حب امرأة أخرى بعد رحيل بدرية تملأ فراغ جوفه؟ لو حدث هذا، كيف كان يؤثر على الأحداث اللاحقة وبخاصة العودة إلى الحارة؟

عصر الحب النهاية وما بعدها

“لا عودة بلا ثمن”، هذا ما يقوله عزت بعد لقائه الأخير بعين. المرأة حريصة على إبقاء رابط بينه وبينها حتى بعد رحيلها (وقفت أموالها للخير وعينته ناظرًا)، غير أن عزت انفصل إلى شخصين لا يبدوان على وفاق. آخر جملة يقولها عزت هي: “سأسافر إلى الخارج حال انتهاء الشتاء”، مقررًا أن يتعامل مع غياب عين بهروب أبعد من تعامله مع حضورها القديم. في المشهد الأخير تسمع عين الطيبين الذي ذهبوا ينادونها فتلبي.

هل تسجيل هذا الانفصال بين المصيرين يحوي تسجيلًا ضمنيًا لانعدام الارتباط من الأساس؟ هل كنا نتحدث عن مسارين حتميين لفردين لم يلتقيا رغم طول المعاشرة؟ كل ما نعرفه أن السيدة عين وإن فشلت في تخليف ابن صالح فقد نجحت في تخليف مستشفى أبقى اسمها حيًا ومثّل امتدادًا ملائمًا لحياتها.


كتب PDF ، كتب و روايات PDF ، أفضل تجميعات الكتب، كتب عالمية مترجمة ، أحدث الروايات و الكتب العربية ،أفضل ترشيحات الكتب و الروايات، روايات و كتب عالمية مترجمة.