في كتابه «القرآن والشريعة: نحو دستورية إسلامية جديدة» ( الشبكة العربية للأبحاث والنشر،2019)، يقدم أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة كولومبيا الأمريكية البروفسور وائل حلاق، مجموعة من الأطروحات القيمة التي بلورها الأخير عبر عقدين من الزمان، والتي يجمعها رغم تعددها، تناولها مسألة القرآن والشريعة من زوايا عدة.
الأطروحة الأولى لحلاق في الكتاب هي رؤية نقدية لثلاث أطروحات استشراقية أساسية عن بدايات الشريعة الإسلامية وأصولها، أما الثانية في هذا السياق فهي عن دور القرآن المركزي في تشكل الشريعة في مقابل التصورات الاستشراقية عن دور التأثير البيزنطي والروماني المتأخر في تشكيلها، بينما الثالثة هي عن النظرية الأصولية المقاصدية للإمام الشاطبي.
يجمع الكتاب بين دفتيه أيضًا، مقالاً قديمًا لحلاق تحت عنوان «هل يمكن إحياء الشريعة؟» يعبر عن تصوره لدور ممكن للدولة الحديثة في إحياء الشريعة الإسلامية، وهو التصور الذي عدل عنه حلاق لاحقًا، وتبنى ما يخالفه تمامًا في كتابه الأشهر «الدولة المستحيلة»، الذي صدرت طبعته الأولى باللغة الإنجليزية عام 2012.
في نقد الاستشراق: كيف تشكلت الشريعة الإسلامية ؟
يقدم حلاق في الفصل الأول من كتابه، رؤية نقدية للأطروحات الاستشراقية المتأثرة بكتابات المستشرق الألماني جوزيف شاخت مؤلف كتاب «أصول الفقه المحمدي»، التي أرست مجموعة من المبادئ والمنطلقات الخاطئة في الفهم الغربي لتاريخ تشكل الشريعة الإسلامية حسب ما يعتقد حلاق.
إذ يذهب شاخت إلى أن الفقه الإسلامي لم يؤخذ مباشرة من القرآن، ولكنه تطور من الممارسات السياسية والقضائية والشعبية في ظل الحكم الأموي. يعتقد شاخت في هذا الإطار أن تلك الممارسات كانت مفارقة لنوايا القرآن، وفي بعض الأحيان لظاهر نصوصه أيضًا، وهو الأمر الذي يعده حلاق حكمًا جريئًا ومتسرعًا وغير مبني على استدلالات كافية.
يقول حلاق إن المستشرق هارالد موتسكي –أحد أبرز علماء الحديث النبوي الغربيين- رغم دحضه لنظرية شاخت عن الفترة الزمنية لبدايات تشكل الفقه ودور القرآن في هذا السياق، إلا أن نظرية موتسكي ظلت أسيرة لافتراضات شاخت في جوهرها، حيث أرجعت نظرية موتسكي تشكل الفقه إلى فترة أبكر زمنيًا فقط (حوالي 20 عامًا بعد الهجرة)، ولم تستطع أن تتعاطى مع الدور التشريعي الجوهري للقرآن، بشكل يعكس أهميته الجوهرية في هذا الصدد.
يعرّج حلاق بعد ذلك على نظرية المستشرق الإنجليزي نويل كولسون، الذي كان مهتمًا بإيجاد سردية عامة عن التشكل المبكر للشريعة الإسلامية. ينتقد حلاق في هذا الإطار توقعات كولسون من النص القرآني الذي كان ينظر إليه كمدونة قانونية، ومن ثم كانت تخيب آماله عندما لا يجد آلية إلزامية واقعية للإكراه الجبري، ولذلك اعتبر كولسن من بين 500 آية تشريع، 80 آية فقط هي التي تتعلق بمواضيع قانونية خالصة.
يقول حلاق منتقدًا دراسات الاستشراق الغربي إجمالًا على المستوى المنهجي، إن أطروحات الغربيين حول دور القرآن في تشكيل الشريعة الإسلامية، فرض فيها الدارسون أفكارهم ومعاييرهم الحداثية، ومفاهيمهم الثنائية حول القانون والأخلاق، على الأمم والمجتمعات الأخرى، وعلى الأزمنة والثقافات المختلفة، التي كانت فيها شدة وطأة الحكم بالطرد الأبدي من رحمة الله في الآخرة على سبيل المثال، لا تقل بحال في هذا الوقت، إن لم تكن أشد، عن وطأة العقوبات الدنيوية البدنية والمالية.
البحث عن المبادئ المؤسسة للمجتمع والحكم الإسلامي
يقدم حلاق في الفصل الثاني من كتابه، الذي هو بالأصل ترجمة لدراسة نشرها عام 2012، بعنوان: «الدستورية القرآنية وتحكيم الأخلاق: نظرات جديدة في المبادئ المؤسسة للمجتمع ومنظومة الحكم الإسلامي»، رؤية مثيرة للاهتمام عن دور حاكمية الأخلاق في النسق الإسلامي وتأثير مرجعية القرآن الكريم، على تشكل البنى المعرفية والسياسية والقانونية، وإرسائها لمجموعة من المبادئ التي وضعت هياكل الاجتماع الإسلامي التاريخي وقواعده المؤسسة على ثلاثة مستويات ألا وهي: المؤسسة الدستورية ومبدأ سيادة القانون، الفقه وآلياته الاجتهادية، والهيمنة والإلزام الأخلاقي للقوانين الإسلامية.
تمثل دراسة حلاق الواردة في الفصل الثاني، تطورًا هامًا في أطروحته عن منظومة الحكم في الإسلام، التي قدمها في كتابه «الدولة المستحيلة»، من خلال توضيحه هنا أن القرآن الكريم، على عكس ما هو سائد في الدراسات الاستشراقية القانونية، لم تكن سلطته مجرد موضوع للتبرير اللاحق على أيدي الفقهاء في عصور متأخرة، بل كان هو المرجعية والسلطة والوحيدة بصفته وحي السماء، للتحكيم في جميع الخلافات، خلال فترة النبوة؛ ومن ثم تشكلت من خلاله بنية الشريعة ونسقها القانوني والسياسي.
يضع هنا حلاق القرآن الكريم، في المركز قبل أي مصدر آخر، بما في ذلك حتى «السنة» نفسها التي اعتبرت الدراسات الغربية الحديثة أن الفقه أحد نواتجها، في محاولة منهم على ما يظهر، تغليب العنصر البشري والتاريخي على نشأة هذا الحقل المعرفي.
وهو ما يدفع حلاق بنهاية المطاف إلى القول، بأن مفهوم الهوية المتوسطة بين الدولة والثقافة في الأزمنة الحديثة، لدى المتأثرين بجرامشي وعند الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ومعه مفكرو ما بعد البنيوية، تكشف أن النموذج الإسلامي القرآني أكثر قوة من النموذج الغربي محل تحليل ونقد هؤلاء، لأنه يتبنى بإصرار مفهومًا للعدالة يتجاوز هيمنة الدولة، حيث يخضع جميع الفاعلين السياسيين والقانونيين جميعًا إلى سلطان الله، على نحو يتناغم مع المفهوم الكوني للعدالة، المتجذر بقوة في الضمير والنظام الإنساني.
مركزية القرآن في النظرية الأصولية للإمام الشاطبي
في الفصل الثالث من الكتاب، يتوقف حلاق عند الإمام الشاطبي ومنهجه الأصولي في فهمه للقرآن الكريم كمرجعية حاكمة ومركزية، ونظرته إليه كبنية معمارية متكاملة لا يمكن فصل أجزائها عن إطارها الكلي، وليس فقط كمجرد بنية لغوية، يمكن أن يعالج الفقه نصوصها ويفسرها على أنها أوامر ونواه وحسب.
يسلط حلاق الضوء هنا بوجه خاص، على اهتمام الشاطبي بالترتيب الزمني لنزول الآيات، وبسبب النزول، وبالعلاقة الوشائجية بين آيات القرآن في هذا السياق، الأمر الذي يعبر عن فهمه العميق لوظيفة القرآن على المستوى التشريعي، على عكس الرؤى الاستشراقية التي لم تستوعب هذه المركزية، التي يؤكد عليها الشاطبي، من خلال توضيحه أن كل تفصيل جاء وحده في السنة، لا يمثل بنهاية المطاف سوى امتداد لمبدأ منطلق من النص القرآني، في علاقة تقوم على الاتساق والترابط المتين والمحكم بين القرآن والسنة، يليهم في هذا جميع مصادر التشريع التالية الأخرى مثل الإجماع والقياس.
لهذا فإنه في ذلك النسق المعرفي الذي يؤسسه الشاطبي، تتحول السنة النبوية إلى حاشية شارحة على القرآن. لذا كان مذهب الشاطبي في هذا السياق أقرب إلى مذاهب مفسري القرآن الكريم، منه إلى مذهب الفقهاء وعلماء أصول الفقه، ولذلك فإن رغم تميز ما قدمه الشاطبي على المستوى الأصولي، إلا أن علماء الأصول كما يفيد حلاق، لا يقرون إلا بالنذر القليل من القواعد التي وضعها الشاطبي، تحت كثير من الشروط المقيدة.
هل يمكن إحياء مرجعية الشريعة؟
تكمن أهمية قراءة الفصل الرابع من كتاب حلاق، رغم تراجع الأخير عن الفكرة المحورية في هذا الفصل، في فهم التطورات التي مر بها فكر حلاق في هذه المسألة بالغة الحساسية، التي تبدلت فيها رؤية حلاق، على نحو ما بدا لاحقًا في كتابه المثير للجدل «الدولة المستحيلة».
يقول حلاق في هذا الفصل، إن تبني الدول الإسلامية لمفهوم القومية، كان إيذانًا بموت وزوال الشريعة، وأن إخضاع الأوقاف الإسلامية، لسلطة الإدارة المركزية كان إيذانًا بنهاية دور الفقهاء في المجتمع الإسلامي، حيث سحب من تحت أيديهم المصدر الرئيس لاستقلال سلطتهم، وصاروا يعتمدون بشدة على الرواتب التي تمنحها الدولة، التي صارت تتضاءل بدورها تضاؤلًا منظمًا مطردًا.
في هذا السياق تشكلت نخب قانونية جديدة عوضًا عن النخب الدينية الفقهية، وذلك بعد تهميش التعليم الديني وإزاحته من قبل الكليات الجامعية الحديثة وعلى رأسها كليات الحقوق، وأعقب هذا استبدال كامل النظام القانوني المطبق، على مستوى القانون الجنائي وقانون العقوبات، والقانون التجاري وغيره الكثير من القوانين، ولم يتبقّ أخيرًا سوى قشرة قانونية خادعة تتمثل في استمرار العودة إلى أحكام الفقه التقليدي، في قانون الأحوال الشخصية تحديدًا.
يقول حلاق أن هذا الانقطاع عن الشريعة، كان له أثرًا عميقًا على البنية الداخلية للفكر التشريعي، حيث افتقد القاضي والمحامي المسلم في العصر الحديث بحكم التأهيل العلمي والدراسي الذي يختلف تمامًا عن تأهيل القضاة والدارسين الشرعيين، الإطار المعرفي والتأويلي الذي يمكنهما من فهم التقليد وأهميته ابتداءً، ومن ثم لم يبق من النظام التشريعي الإسلامي التقليدي إلا بقايا مشوهة جرى التلفيق بينها على نحو يعتريه خلل منهجي واضح.
يقول حلاق، إن الدولة وحدها هي التي تستطيع أن تمهد السبيل لوصل هذا الانقطاع التاريخي وإعادة إحياء الشريعة، ولكنها لا يسعها القيام بذلك عمليًا، في ظل الأنظمة الحالية المستحوذة على السلطة في العالم الإسلامي، وأن السبيل الرئيسي إلى ذلك، يكمن في إحياء الشروط اللازمة لإنتاج نسخة حديثة من الشريعة، وفي دعم المؤسسات الدينية وكليات الشريعة ماليًا، وأخيرًا من خلال دمج الهيئة الدينية في التراتبية السياسية والاجتماعية الخاصة بها، حتى يتسنى للمشتغلين بالشريعة إدارك الهموم المجتمعية وإعمال النظر فيها على المستويات كافة.
ويختم حلاق هذا الفصل، بطرحه سؤالين معلقين دون إجابة، وهما: إلى أي مدى يستطيع المسلمون في العصر الحاضر أن يتقبلوا الحداثة وأن يتبنوا منتجاتها؟
وهل بوسع الشريعة أن تصون كمالها الفكري والديني، وأن تحافظ على تأويل نصوص الوحي المنزلة، وهي تعالج عواقب اتخاذها كمرجعية تشريعية، في عالم تحكمه مواثيق واتفاقيات راهنة لحقوق الإنسان، ونظم اقتصادية تقوم على الفوائد الربوية؟