يعد هذا الكتاب أحد أجزاء سلسلة السيولة أو السوائل لعالم الإجتماع البولندي «زيجمونت باومان»، والتي يناقش فيها وضع مفاهيم مختلفة تحت مظلة ما بعد الحداثة، أو ما يسميه بالحداثة السائلة، حيث مرحلة الحداثة في فكر باومان هي مرحلة الصلابة، وما بعد الحداثة هي مرحلة السيولة. وفي هذا المعنى يوضح باومان أن ما يحوِّل الحداثة من الحالة الصلبة إلى الحالة السائلة (إلى ما بعد الحداثة) هو سعي الإنسان الدائم والحثيث إلى التحديث المكثف والزائد عن اللازم، والذي أفضى إلى عدم قدرة أي من أشكال الحياة الاجتماعية المتتالية بأن تحتفظ بشكلها زمنًا طويلًا، تمامًا مثل المواد السائلة.
يبدأ الكتاب بمقدمة قصيرة للمترجم؛ يشير فيها بشكل سريع إلى التحولات المهمة خلال العقود التي شهدت ظهور العولمة، والتي أدت إلى التمركز حول السوق والنزعة الاستهلاكية وفلسفة الفَردانية.
يأتي الفصل الأول بعنوان «عن الجولات التاريخية لمفهوم الثقافة»، ويستشهد بتعريفات العديد من العلماء بدءًا من عالم الاجتماع «جون جولدثورب»، والذي قاد فريقًا بحثيًا بجامعة أكسفورد لرصد حالة الثقافة في بعض الدول، ليجزم أنه لم يعد من الممكن تمييز النخبة الثقافية من غيرها مثل ما كان في الماضي. مرورًا بالبحث الخاص بـ «ريتشارد بيترسون»، والذي يرى بأن السياسة النخبوية الجماعية تحولت من أصحاب الثقافة الذين يحتقرون كل وضيع أو سوقيّ إلى أصحاب الثقافة الذين يستهلكون كل شيء في شره واضح. وانتهاءً بـ «بورديو» الذي قام بتحليل وضع الثقافة في المرحلة التي كانت تحاول المحافظة على توازنها فيها قبل أن تفقد مكانتها وتتحول إلى مرحلة السيولة.
يركز الكاتب في هذا الفصل على أن الثقافة السائلة تتبنى سياسة الإغراء بدلًا من التنوير والارتقاء بالنفس، وأن تكون نشاطًا مفتوحًا غير محدود بهدف ألا تشبع الحاجات القائمة بل أن تظل في خلق متواصل للحاجات، لكي تمنع المرء من الوصول إلى إحساس الرضا عن النفس أو الإشباع الذاتي.
في الفصل الثاني، «عن الموضة والهوية السائلة ويوتوبيا العصر»، يستعير رؤية «جورج زيمل» عن الموضة أنها (لا تبقى أبدًا على حالها، لكنها في حالة صيرورة دائمة)، ليشرح الكاتب أن معنى كونها حركة دائمة فهي عملية تستمد استمراريتها من داخلها، وتستجمع الطاقة وهي تستهلكها في نفس الوقت.
يرى الكاتب بشكل ما أن الإنسان يركن للموضة بحثًا وطلبًا للأمان، فهو وإن كان كائنًا دائم البحث عن الفردية والأصالة، فهو يحتاج إلى الدعم الاجتماعي والتماثل مع المجتمع، وألا يشعر بأنه مختلف بشكل يقوده إلى الوحدة، متفقًا في ذلك مع ما ذكره على لسان «جورج زيمل» كذلك، بأن الموضة حل وسط بين نزعة الانفصال ونزعة المساواة الاجتماعية في الإنسان.
في حالة التغيير والصيرورة التي تفرضها الموضة على الأشياء، تجد كل شيء في تقدم سريع فجّ، لتحطّ من كل شيء تخلفه وراءها، وتجعل المرء يتبنى كل يوم توجهات وأفكارًا جديدة تختلف عن الأمس، وفكرة التقدم هذه لا تعني التحسين المشترك للحياة وإنما تعزز خطاب البقاء الشخصي. باختصار، يلخص باومان فكرة الموضة والتقدم في أنه «إذا أردت أن تنجو من الغرق فعليك بالاستمرار في ركوب الأمواج».
تحاول السوق الاستهلاكية تمكين الثقافة من الخضوع إلى منطق الموضة، حيث لكي يثبت المرء وجوده، عليه أن يثبت قدرته على أن يكون شخصًا آخر، مثل الحرباء في تلونها.
يرى الكاتب أن يوتوبيا اليوم أو يوتوبيا الحداثة السائلة لا تكمن في إيجاد مكان أسعد للعيش، وإنما تكمن في التغيير المستمر للأنا، ليجد الإنسان حالة آمنة من السعادة في تغيير ثوبه وهويته مرارًا وتكرارًا. وبذلك ينتهي مفهوم اليوتوبيا الذي صنعته الحداثة الصلبة والذي يحلم بفردوس النعيم، فالحداثة السائلة في حالة صيد دائم للملذات، ولا ترغب في وصول الأفراد إلى نهاية الصيد، حيث لا يوجد هناك، وإنما كل شيء «هنا والآن».
ينتقل الكاتب في الفصل الثالث إلى «الثقافة من بناء الأمة إلى العولمة»، حيث يناقش أثر موجات الهجرة على تحوّل الثقافة إلى الحالة السائلة، وخاصةً الموجة الثالثة والحديثة التي مثلت بداية عصر الشتات، والتي سارت بمنطق العولمة في حتمية توزيع موارد العيش وفرص البقاء.
في عصر الثقافة السائلة تتغير كل المسارات، فكل ما هو قطعي يدخل تحت دائرة إمكانية التغير، والسماح بالاختلاف، بحجة «التعددية الثقافية» التي تُستخدم استخدامًا مزيفًا للتعبير عن التعددية المتحدة، ففي النهاية يتم تشكيل اختيارات القوى المحرومة من قِبل القوى الأخرى الأعظم منها. في تحول الثقافة من بناء الأمة إلى تبني نموذج العولمة، تجد الهدف هو الإبقاء على عقول العامة في مكان آخر، وإلهاء الفصائل المختلفة داخل المجتمع الواحد بالتقاتل مع بعضهم، فعندما يتقاتل الفقراء مع الفقراء، يبتهج الأغنياء.
من نقطة عالم الشتات في الفصل الثالث ينطلق باومان في الفصل الرابع إلى التناول الدقيق لـ«الثقافة في عالم الشتات»، يوضح كيف تحول المثقفون من زارعين للقيم ومعلمين لها وأصحاب مبادئ مترسخة، إلى جعل الإنسان مجهزًا بمرجعيات جديدة ومعايير مرنة وقواعد مفرغة. وبدلًا من أن ينقسم المجتمع إلى مجتمعات، يتحول إلى أسراب، حيث الأسراب لا تحتاج إلى قادة بل تنجح في العثور على طريقها من دون تدخل.
أصبحت سمة العالم في عصر الشتات هي عدم الارتباط والبعد، حيث يقدم المجتمع نفسه بأنه «مجتمع خفيّ إلا على الخيال»، لا سبيل إلى معرفته أو سبر أغواره، يُصرِّف الإنسان نفسه فيه وحده، ففي عالم الشتات، كل شيء «سائد» لا يبقى أبدًا سائدًا زمنًا طويلًا.
يتخذ باومان في الفصل الخامس من الاتحاد الأوروبي نموذجًا على شكل الثقافة في العالم الحديث أو السائل، فعن «الثقافة في أوروبا باحثة عن الاتحاد» يذكر باومان في بداية رؤيته عن الاتحاد الأوروبي أنه كان لا يسعى إلى هدم هويات البلدان في إطاره، حتى مع محاولات العولمة، لكن حديثًا تحولت الأمم المتماسكة إلى روابط مبعثرة مكانيًا ومتحالفة معنويًا، ويتناول باومان بدقة في هذا الفصل أثر الثقافة السائلة على الأقليات وأثر الأقليات والدولة والأمة والمجتمع على الثقافة.
في الفصل الأخير، يناقش باومان «الثقافة بين الدولة والسوق»، ويتخذ من فرنسا نموذجًا لرصد التحول من الثقافة الصلبة إلى الثقافة السائلة، حيث يذكر في بدايته المفهوم الفرنسي للثقافة بوصفها (اسما جمعيًّا لجهود الحكومة الرامية إلى نشر التعليم وتهذيب الأخلاق والارتقاء بالأذواق الفنية وإيقاظ الحاجات الروحية التي لم يمتلكها الجمهور من قبل أو لم يكن واعيًا بأنه يمتلكها) والتي كانت برعاية تبشيرية وبهدف التنوير والهداية والتهذيب. كانت الممارسات الثقافية بدايةً في فرنسا تقوم بجهود من الدولة، حتى انفصلت عنها رويدًا رويدًا، وصار هناك صراع بين المثقفين وبين الدولة، حيث يرى المثقفون أن الثقافة تعاني من التدمير عندما تخضع للتخطيط والإدارة.