إن كان لزامًا عليك أن تختار كتاب واحد فقط من بين كتب عديدة فبدون شك عليك أن تختار هذا الكتاب الأسطوري..
هذا الكتاب عبارة عن دراسة دقيقة وافية جدًا ومخلصة جدًا، أقرب ما تكون للكمال رغم الإختلاف تجاه بعضه، لكنها دراسة محترمة ومشرّفة، دراسة لا تعتمد على قال فلان الأجنبي وقال علان الأوروبي، لا يعطيك خلاصة دراسات سابقة جمعها، بل هو يدرس المجتمع مستندًا على أشياء كثيرة وينظر و ينقح.. لن تشعر أن الدراسة ينقصها شيئًا علميًا..
يقول مصطفى حجازي: ” لم نستعرض في هذا البحث سوى بعض الملامح البارزة لبنية التخلف الإجتماعي، وما تولده من سيكولوجية خاصة عند الإنسان المقهور، كما أننا لم نتناول بالبحث سوى بعض الأساليب الدفاعية الأكثر بروزًا التي يجابه الإنسان المتخلف من خلالها مأزقه الوجودي، هنالك لاشك جوانب هامة كثيرة على كل صعيد لابد للأبحاث الميدانية أن تكشف عنها، فالميدان لا زال بكرًا، وقد يكون ما يخبئه من معطيات أهم وأخطر مما ظهر لنا منها “
هذه دراسة مستوفية لما جاءت به لكنها قد تحتاج إلى الكثير من العمل لكي ندرس بيئة التخلف وأثرها على الإنسان المتخلف المقهور، وأن هذه البيئات لاتناسبها إلا دراسات بيئتها ذاتها، وعلم نفس خاص بها.
يقول مصطفى حجازي أن هذه الدراسة تحتاج إلي ما يدعمها من دراسات أخرى، أي أنها بالتأكيد قد يعتريها نقص – خطأ -شك أوغير ذلك كونها دراسة أولى لميدان لازال بكر على حد قوله.
يتكون الكتاب من مقدمة و تسعة فصول تقع في قسمين هما:
- الملامح النفسية للوجود المتخلف
- الأساليب الدفاعية
القسم الأول يرسم صورة نفسانية للوجود المتخلف بين الجماهير العفوية الأكثر غبنا.. ويدرس الظروف والبيئة الاقتصادية والسياسية الخ..
أما القسم الثاني يتحدث عن الأساليب الدفاعية وردات فعل الإنسان المقهور، قيمته في نظر نفسه وفي نظر الآخرين.. ودراسة اختلال التوازن الوجودي والحاجة لهوية و كبرياء.. والكثير في هذا القسم.
يختتم الكتاب بخلاصة تلي فصل رائع، ربما نحتاج جميعا أن نقرأه ونعيه جيدًا وهو الفصل التاسع بعنوان: وضعية المرأة، و كل امرأة ستلاحظ ماقاله على نفسها وفيمن حولها من مختلف الطبقات ومختلف الثقافات.. تظل تدخلات القهر صارمة مهما اختلفنا..
كما يقول حجازي : “المرأة هي محط كل تناقضات وتجاذبات الإنسان المقهور في العالم المتخلف، وتحليل وضعيتها ومكانتها يكشف أكثر من أي شيء آخر خصائص الوجود المتخلف ومأزقيته، فعليها تصب كل التبخيسات وكل المبالغات في القيمة، وتجاهها تبرز كل التجاذبات بأفصح صورها، وضعية المرأة في المجتمع ما تلخص الصراعات الأساسية والمآزق الأساسية لهذا المجتمع.”
لا تجد أكثر دقة من هذه الملاحظة الرائعة.. الآن يجب أن نفهم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام بطريقة أخرى بطريقة أوسع من أن الفتنة في المرأة ليست جسد فقط.. بل أنها مقياس واختبار لرجولة الرجل في تصرفاته معها من حقارته في احتقارها.
الفتنة تصورناها فقط جسدية و ريحة عطر ونقاب وكحل،، لكنا لم نتصور أن حديث الرسول الحبيب أبعد من ذلك بكثير لأن بيئتنا تملي علينا التفكير في قضية واحدة فقط ( المعاكسات ) ولكن الفتنة أكبر من ذلك بكثير..
آخر فصل كان فعلًا ختام مذهل لكتاب مذهل..
ستشعر أن الكتاب هذا مهزلة العقل البشري و طبائع الإستبداد رغم بعض علاتهم إلا أنهم كانوا كالعزاء.. ستشعر أنهم (يعزونك) في كل ماتعيشه الآن سواء في أنفسنا أو في من حولنا..
هذا الكتاب سيكون بمثابة الشيء الذي يرفع عنك غمة فكرية.. تعودنا أن ننتقد وجودنا كعرب وسوء حالنا.. حتى أن مذمة العرب صارت حرفة و مصدر شهرة.. هل تريد أن تكون مضحكًا وكوميديا وستاند اب كوميدي، انتقد العرب والسعوديين حتى تشبع، هل تريد أن تصبح ذكيًا ويشار لك بالبنان ؟ سهلة انتقد نقد لاذع في العرب وقل أننا متخلفون..
ستشعر بإمتنان عميق للدكتور مصطفى،، امتنان عميق جدًا جدًا، ستبدأ في مراجعة نفسك ومواقفك وانتقاداتك،، وأن مانحن فيه ليس وليد اللحظة بينما هو ناتج من تراكمات وسيكولوجية أن لم نفهمها فلا نهاجمها بجهل، يجعلك تعيد هيكلة تصرفاتك تجاه وضعنا، وأننا نستطيع أن نتخلص من القهر حالما نعمل عقولنا، لاتتوقع من الكتاب الذم والتحقير،، ستشعر بأن الكتاب أبعد من ذلك، الكتاب هو توضيح للتخلف،، أشياء كنت تستغربها ستفهمها، أشياء كنت تشعر أنها تقيدك لأنك لاتجد لها جوابا..
الكثير الكثيير من سطور هذا الكتاب تشعرك بحرية.. حرية فعلا عندما تفهم.. وعندما شعرت أن هناك عدة أوجه وأن مايصلنا هو ليس الوجه الوحيد، وأن ما يُحشى في رؤوسنا ليس بالضرورة أن يكون صحيحا إنما هو انعكاس لبيئة مقهورة... تشعر أن الكثير يدور في داخلك ولكنك لا تعرف كيف تقوله بالكلمات الصحيحة.. بعض المقاطع ستهزك.. ستشعر أنك لم تعد تعرف نفسك ولا مبادئك من أين جاءت وتبعا لماذا،، ستشعر أنك بحاجة شديدة لإعادة النظر في أشياء كثيرة، وأن عليك أن تعيد النظر والتراجع عن بعض المواقف وبعض المبادئ وبعض المعتقدات، ومن هنا يبدأ التغيير.
فقد تناول المؤلف الدراسة بدقة كبيرة وقدرة فتّاكة على الملاحظة والربط والتحليل، لدرجة أنه تناول موضوع الطعام وعاداته وعلاقته بالمجتمعات المتخلفة والمقهورة.. الحقيقة أن هذا الكتاب سيرفع سقف تقييماتك للكتب من هذا النوع،، نقولها بصدق لربما هذا الكتاب كان من أكثر الكتب التي تقدم دراسة علمية ونفسية على مستوى عالي جدا، ذكائه في ربط الأمور وتحليلها يجعلك تشعر أنه كاتب يحترم القارئ بشدة، و رائع هو حديثه المسهب عن القدرية وعن التلعق بالرموز والأبطال المخلصين، وحديثه المقتضب الجميل عن علاقة الأمثال الشعبية بالبيئة والوضع الفكري للمجتمع، لطالما احتجت هذا الحديث.
قد تختلف مع الكتاب في بعض الأشياء وقد تشك في بعض الأشياء لأنك لم تفهمها تمامًا.