الألم في لوحات الفنان الأصم فرانشيسكو دي غويا

بدأت مواهبه الفنية بالتفتح منذ الثانية عشرة من عمره، وبعد أن تلقى بعض الدروس الأولية في التصوير من معلم في سرقسطة مضى إلى مدريد في عام 1763، وهناك أخذ عن كبار المصورين المعروفين في ذلك الوقت، مثل المصور الألماني مينغ، والمصورين الفرنسيين هواس ولوي ميشيل فان لو، وهم من مصوري الوجوه المتفوقين، ثم مضى إلى إيطاليا بعد إخفاقه في مسابقة الأكاديمية، ثم عاد إلى سرقسطة.
كان أول عمل معروف أنجزه هو تصوير جداري (فريسك) في عام 1771 على جدران كاتدرائية نوتردام دي بيليه في سرقسطة، ومن ثم أنجز مجموعة من اللوحات الدينية التي لم تمثل بعد أسلوبه المتميز.
عمل غويا في مدريد في مرسم معلمه فرانشيسكو بايو فتزوج من أخته وعمل معه تصميمات سجادة جدارية كبيرة كان قد كلف إنجازها، أنجز ما بين عامي 1776-1791 مجموعة من اللوحات الشخصية يتجاوز عددها الأربعين لوحة، مثلت في الواقع أسلوبه التعبيري ومزيّته التقنية بجمالية مدهشة تجلّت باستثمار متميز للإضاءة والألوان، وبقريحة وتصور مازالا غريبين عن أعمال نظرائه من مصوري الوجوه في عصره. وفي لوحته للملك شارل الثالث بلباس الصيد، اهتم غويا بتصوير الطبيعة في خلفية اللوحة، ولعل صورته الشخصية التي صورها في عام 1783 من أبرز أعماله. وفي ذلك الوقت نسخ لوحات للمصور فيلاسكز. وأصبح عضواً في أكاديمية سان فرناندو في عام 1779، ثم أصبح رسام الملك شارل الثالث الذي كلفه نسخ لوحات بالماء القوي للرسام فيلاسكز. وكان يصرح بأنه مدين بما بلغه لرمبرانت وفيلاسكز والطبيعة.منذ العام 1785 أصبح غويا متمكنًا من مهنته واختصاصه، فتهافتت عليه طلبات التصوير الشخصية والزيتية الكبيرة، وأصبح في ذلك الوقت رسام القصر وأطلق عليه اسم مصور الغرفة، وبذلك أتيح له أن يصور كبار رجال البلاط ونسائه من دوق أو مركيز أو نبيل، وبدا تأثير المدرسة الإنكليزية واضحاً في صوره الشخصية هذه، ولعل لوحته الكبيرة التي تمثل أسرة الملك شارل الرابع والتي أنجزها في عام 1800 من أصعب أعماله وأدقها.
في نهاية الأشهر من عام 1792، وبصورة مفاجئة، داهم غويا مرض حاد حيث كـان مقيماً في مـدينة قادش، ضيفًا على أحد أصدقائه سيباستيان مارتينيز، فأمضى بضعة شهور يعاني سكرات الموت، ولم ينج منه إلا بعد معاناة شديدة، فاسترد بصره بصعوبة، وعالج بصبر الشلل الذي أصابه، ولكنه لم يستطع أن ينجو من علة الصمم التي حرمته دائمًا نعمة السمع ومتعته، وكان في السابعة والأربعين من عمره، ومنذ تلك السن تغيرت حال معيشته، وانقلبت ظروف حياته من النعيم إلى المأساة الدائمة، ولكنه استطاع بطاقته الجبارة وإرادته القوية أن يسترد نشاطه بعد استراحة استمرت ستة شهور في بلاد الأندلس، ثم عاد بعدها إلى مدريد حيث مرسمه وبيته، وكان لهذه المصيبة أثرها في انعزاله الاجتماعي، وفي انصرافه إلى التأمل والحلم، معانيًا آلامه وتشاؤمه ومرارة ظروفه، ومع ذلك صور في عـام 1793 مجموعـة من اللوحـات الشعبية ذات المغزى الاجتماعي أو الأخلاقي، بشرت بالانطباعية إلى حد بعيد، فكانت هذه المدرسة من أبرز بوادر الفن الفرنسي الذي انتشر في القرن التاسع عشر. وتمثل هذه الموضوعات، النزوات وفواجع الحرب أو صراع الثيران، أو الأساطير الشعبية، وهي أعمال غير تجارية، ولا تحمل الأسلوب المألوف شعبيًا والذي تمثَّل في تصميم السجادات التي كان ينجزها، بل كانت موضوعات قاسية في دلالتها، ولعل الصور الجدارية التي ملأت بيته الخاص كانت من أشدها تعبيراً عن القسوة والغرابة وعن موضوعات النزوات الغوغائية والهواجس المزعجة، والتي تمثلت أيضاً في لوحاته المستقلة.
ومن الواضح أن الحرب الإسبانية في العام 1808، وسيادة فرنسا على إسبانيا، تجلتا بقوة في الطابع القاسي والفاجعي في أعماله، فالفظائع الحربية والمجازر وأهوال الحرب برزت بجلاء في أعمال الغرافيك بالماء القوي أو الحفر المائي، والتي حملت عنوانات كوارث الحرب، ومن أبرز أعماله في موضوعات الحرب لوحته الشهيرة «الثاني من أيار» والتي تبين المهاجمين وهم يفتكون بشعب مدريد، ولوحة «الإعدام رمياً بالرصاص في الثالث من أيار» والتي تمثل تنفيذ الإعدام بالمدافعين بشرف وتحد عن وطنهم الإسباني، وإلى جانب هذه الأعمال الملتزمة والتي تعبر عن مشاركته الفعالة لمواطنيه المدافعين عن وطنهم، والثائرين لكرامتهم، لم ينفك غويا من إنجاز اللوحات الشخصية التي تخص غالبيتها رجال القصر حيث توطدت علاقته بأبرز النبلاء، وقد أثارت هذه اللوحات الشخصية الدهشة لما تحمله من تعبيرات نفسية ومن واقعية وتنوع. وإضافة إلى لوحته «عائلة الملك شارل الرابع» ولوحته لصديقته دوقة إلبا، فإن لوحتي ماجا العارية والكاسية حملتا موقفه النقدي من الظروف الطبقية الفاسدة في مدريد خاصة. ويجب الإشارة أن غويا، كان غويا يعيش في كنف القصر في مدريد، تلك المدينة التي شهدت بذخاً هائلاً أثار غويا ودفعه إلى نقده بريشة لاذعة، وكانت مدريد آنئذٍ تنفق سنوياً ما يزيد على خمسة ملايين ريو على اللهو والمسرات، في حين كانت طبقات الشعب تعاني الفقر والعوز، مما دفعه إلى تصوير هذا الواقع المتناقض.
في عام 1824 تعرض غويا إلى هجوم السياسيين لموقفه المتحرر، وإلى نقد رجال الدين والكهنة لأعماله الغرافية اللاذعة، مما دفعه إلى الغياب عن الساحة الوطنية، والمضي إلى باريس، ثم أقام في بوردو لاجئًا حرًا.
وعلى الرغم من بلوغه الثمانين من عمره، فإنه لم يكف عن إنجاز الأعمال التصويرية والغرافيكية. ومن أبرز أعماله الأخيرة بطريقة الطباعة على الحجر، تلك التي تمثل صراع الثيران، أو تمثل وجوه شخصية أو شعبية أو مهنية كصورة «بائع الحليب». وكانت هذه الأعمال تحمل بجلاء الأسلوب الانطباعي الذي سبق ظهوره على يد غويا، بل إن هذه الأعمال تعلن عن مصادر أسلوب سيزان.
وتلخيصًا لخصائصه الفنية يبدو غويا وقد جسَّد ملامح الفن الإسباني المتميزة، التي تكشف عن عناصر هي الأكثر التصاقًا بالهوية والأكثر مرجعية وعمقًا. كما أنه أعلن ولادة الفن الحديث، فقد دخل في تصويره إلى أعماق الذات الإنسانية، واستعمل طرقًا تقنية وأساليب لم يسبقه إليها أحد. ولم يكن صداميًا أو كارهًا للبشر كما صوره بعض النقاد، ولكنه استمر ثائرًا على الموضوعات الفكرية والفنية، كريماً في عطائه المبدع. وكان فناناً برز من صفوف الشعب، فصوّر أفراد الشعب أكثر من تصويره للخاصة والنبلاء، صور من أجل أولئك العامة أكثر من أن يصور لهؤلاء الخاصة، ولهذا جمع في شخصيته هويتين، هوية فنان الشعب وفنان القصر أيضاً، فنان الثورة وفنان النظام السياسي أيضًا.

اُتهم غويا بازدواجية الموقف السياسي، أعلن ولاءه للملك الفرنسي جوزيف بونابرت، بل أصبح رسام القصر معلناً انتماءه إليه بحجة جنوحه إلى الموقف المتحرر الليبرالي. ولكن هذا الولاء المعلن جعله مداناً بعد تحرير إسبانيا وعودة الملك فرديناند السابع عشر. فأحيل غويا للمحاكمة، ولكن الملك الإسباني قال له في المحاكمة: «إنك ولاشك تستحق النفي والاعتقال، ولكن بوصفك فناناً كبيراً فإننا نعلن صفحنا عنك». وهكذا عاد إلى نشاطه وقام بتصوير الملك بزي قائد في عام 1815.
أصيب غويا بنكبة وفاة زوجته وأربعة من أولاده فيما عدا ولده كزافيه في عام 1812، وتشرد أصدقاؤه وسجن أكثرهم. وفي عام 1819 اشترى منزلاً ريفيًا في ضواحي مدريد، زين جدرانه بالصور الفاجعية بأسلوب تعبيري، مما شكل زخرفة نقدية قاسية، وعندما ترك هذا البيت لحفيده مهاجرًا إلى بوردو، كان فيه مع الأثاث عشرات من رسوم رمبرانت الغرافيكية، وقد أطلق الناس على بيته الريفي اسم «بيت الأصم».
توفي غويا في مدينة بوردو تاركًا آثارًا فنية تدل على موهبته الفذة، ومهارته البالغة، ورؤيته المستقلة، إضافة إلى أسلوبه المتميز وتقاناته المبتكرة في التصوير وفن الغرافيك. وبعد تسعين عامًا نقل جثمانه إلى موطنه.