أنشودة المقهى الحزين للكاتبة كارسن ماكالرز

أنشودة المقهى الحزين جدًا

لم تقتصد “كارسن ماكالرز” في بث الحزن في هذه الرواية. لا شيء لتستنتجه هنا، فالرواية تقدم نفسها باعتبارها نصًا كئيبًا بكل طرق التعبير المتاحة: العنوان، الصفحة الأولى، والجو المخيم على سطور النص من البداية حتى النهاية. بل إن الكاتبة نقلت النهاية للبداية، فالقصة محكية من منظور مستقبلي لاحق للأحداث المأساوية وانتهاء نزوة المقهى، والغرض طبعًا تظليل الحكي كله بصدى الإحباط والخراب. الانطباع الأول أن هذا قد يكون في صالح النص، فإن صراحة الكاتب تعفي القارئ كثيرًا من الاجتهاد في البحث عن المغزى من النص، كما أن هذا التقديم –الرواية الكئيبة– يترك الباب مفتوحًا لبعض المفاجآت الصغيرة، كحقيقة أن الرواية (كما هو حال الحياة) تجمع بين الحزن والفرح في خليط يجبر المرء على التوقف عنده.

أنشودة المقهى الحزين” رواية مكان كما هو واضح، والمكان هنا هو القرية الصغيرة الصموت، ثم مقهى الآنسة أميليا بشكل أخص؛ البقعة المعبرة عن الحياة في مكان ميت. هذا شيء يسهل أن يرتبط به القارئ المعاصر –رغم قدم الرواية– سيّما إذا كان من رواد المقاهي؛ تلك الأمكنة المخصصة لتواصل بشري غير مشروط، وكُمون على هامش الحياة، وممارسة لعبء الإنسان الأكبر الذي هو تمرير الوقت، وصورته هنا، بعد مجرد الاجتماع، الاستمتاع بسماع البشر وإسماعهم خارج سياق العمل والعائلة.


تقول الكاتبة:

“لكن روح المقهى مختلفة تمامًا. حتى أغنى الأنذال وأكثرهم طمعًا يؤدب نفسه… والفقراء ينظرون إلى أنفسهم باعتراف بالجميل ويمسكون بالملّاحة بأسلوب متأنق ومتواضع. لأن جو المقهى اللائق يوحي بهذه السمات: الرفقة، وشبع المعدة، وبهجة خاصة، وكياسة السلوك”.


حيز ضيق

كثيرًا ما تتيح تركيبة الرواية القصيرة ما لا تتيحه الطويلة، فالمجال المحدد لا يسمح بأي إسهاب، وكل حرف –كما نلاحظ هنا– موضوع في مكانه الصحيح. لا مماطلة في الأحداث ولا تكثير للشخصيات، ومع هذا فإن للنص إيقاعًا هادئًا يكاد يكون منوّمًا، لا لإملاله بل لغوصه الساحر في جو القرية بما يجعل المتابع جزءًا منها؛ إذ أن القرية استقلت فأمست شخصية إضافية في النص.

الحركة البطيئة للحروف هي الحركة البطيئة للحياة في القرية، وفراغ الصفحات مما يشوق هو فراغ المكان المؤدي لفراغ الأذهان التي ما تفتأ تمتلئ بإشاعات وتفاهات غرضها البقاء نشطة لا أكثر، والجو الثقيل يتيح للصغائر إدهاش القارئ.

هل صرت في قمة تأهبك للنقطة الرئيسية التي تبدأ عندها “أنشودة المقهى الحزين” في التحرك؟

قابِل الأحدب

“هناك نوع من الأشخاص يتمتع بخاصية تميزه من البشر العاديين الآخرين. لدى هذا النوع غريزة لا توجد عادة إلا عند الأطفال الصغار، ألا وهي غريزة إقامة تواصل مباشر وحيوي بين نفسه وكل الأشياء في العالم. بكل تأكيد كان الأحدب من هذا النوع، إذ لم يمر على وجوده في المتجر أكثر من نصف ساعة حتى أقام تواصلًا مباشرًا بينه وبين جميع الأفراد الآخرين. بدا الأمر كما لو أنه عاش في البلدة سنوات، كما لو أنه شخصية مشهورة، كما لو ظل جالسًا على كيس ذرق الطيور ومتحدثًا لعدد لا يحصى من الأماسي”.

الأحدب الظريف حظي بقبول الناس لحضوره وغرابته، وكان السببَ المباشر –لأن أمثاله من الناس يجعلون الأشياء تحدث– في إنشاء الملتقى اليومي الذي يجمع أهل القرية. قام الأحدب بشيء أكبر أهمية وهو خطف قلب الآنسة أميليا؛ العاملة المجتهدة الثرية المنقطعة عن الرجال باستثناء زيجة لم تدم سوى أيام.

في جزء متأخر عن هذا من الرواية، وقبل النهاية التي تفطر القلب، تخبرنا الكاتبة أن الناس لم يعرفوا قط عمر الأحدب، إذ كان يصعب تحديد هذا من شكله خاصة وهو يتجنب إجابة السؤال دائمًا. كان الأحدب في نظري يعبر –بمجهولية سنه هذه– عن كثير من أنواع الحب لم تحصل عليها أميليا التي فقدت أباها مبكرًا: حب الولد وحب الأخ الصديق والحب بمعناه الخاص. رحيله في النهاية يجوز حمله على كل نوع من أنواع هذا الحب: الابن يستقل بحياته عاجلًا أو آجلًا والصديق تفرق بينك وبينه الأيام والحب الخاص يتوقف عن كونه خاصًّا بعد حين.

لم يكن الأحدب محبوبها فحسب، لم يكن الشخص العشوائي الذي يربطك به تآلف الطباع واشتراك الاهتمامات وشيء من الانجذاب السطحي فقط؛ إنما كان الرابط الذي يصلها بعالم طالما لم تكن جزءًا منه. يمكن لحبٍ هذه صورته، إذا وقع على امرأةٍ هذه حالها، أن يؤدي لهذا الانهيار التام الذي اختتمت به الرواية.

تأميل

في الجزء التمهيدي من رواية “أنشودة المقهى الحزين” تخبرنا “كارسن ماكالرز” أن الرجل الذي تزوجته أميليا –واسمه مارفن– كان قبلها وغدًا فاسدًا سيئ الخلق، وقد أصلحه حب أميليا مؤقتًا ثم –بالطبع– دفعه إلى قاع المستنقع انفصاله عنها، إلى حد دخول السجن. عرف القارئ عند قراءته هذا أن النهاية ستحتوي بلا شك عودة الشرير من السجن، وهذا ما حدث، غير أن المشكلة لم تكن تحرشه بأميليا أو اقتحامه حياتها، بل كانت انبهار الأحدب بالغريب المثير الذي دخل السجن وزار المدن، فصار يلاحقه في كل مكان ويحاول إبهاره بشتى الصور.

يتعقد مثلث الحب الصامت هذا باستمرار الصفحات. كان يمكن للآنسة أميليا تخيير الأحدب بينها وبين زوجها السابق لولا أنها عرفت أن رحيل الأحدب عنها يرادف الوحدة المطلقة. هنا، يمكن القول بشيء من التساهل إن هذه كانت النقطة الفاصلة التي كانت لتحمي أميليا من جميع التبعات الكارثية التي وقعت لاحقًا، وأن قدرتها على التخلي كان ينبغي لها التغلب على ركونها لأمل ليس ثمة ما يدعمه، لكن متى كان المحب يدرك الوزن الحقيقي للحب؟

وقد أولته ظهرها

“حظي بثقتها في أكثر الأمور رهافة وحيوية. وحده عرف المكان الذي تحتفظ فيه بالجدول الذي يوضح أين كانت براميل محددة من الويسكي مدفونة… وحده كان مسموحًا له بالوصول إلى دفتر شيكاتها ومفتاح خزانة التحف. كان يأخذ مالًا من ماكينة الحساب، حفنات كاملة من النقود، ويقدّر الصلصلة العالية التي تحدثها داخل جيوبه. كان يملك كل شيء تقريبًا في الدار، لأنه كلما غضب أخذت الآنسة أميليا تجوس المنزل باحثة عن هدية تقدمها له”.

عند لحظة الغليان تقرر كاتبة رواية “أنشودة المقهى الحزين” أن يحدث الانفصال على هذه الصورة: مباراة ملاكمة فاصلة بين أميليا ومارفن. تنهزم أميليا بعد تعرضها للخيانة من الأحدب الذي اختار معاونة غريمها، راميًا في جزء من الثانية جسده عليها، وكذا كلَّ إحسانها له وتعلقها به. ما حدث بعد ذلك تلقته الآنسة أميليا وهي لائذة بغرفتها، لأنه جميعَه (سرقة تحفها وتحطيم ممتلكاتها وتدمير مصدر رزقها ونقش كلمات فظيعة على طاولات مقهاها ورحيل الأحدب مع عدوها) لم يعادل الخيانة قبحًا.