الكاتب:
انماط الايمان ومسألة الاعتراف بالآخر ملف العدد الجديد من مجلة قضايا اسلامية معاصرة عن مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد صدر العدد الجديد 33-34 (2007م-1428هـ) من مجلة قضايا اسلامية معاصرة, التي يرأس تحريرها الدكتور عبد الجبار الرفاعي, وقد تضمن الملف الأول في المجلة مجموعة دراسات وحوارات ومناظرات حول (أنماط الايمان ومسألة الاعتراف بالآخر). فتناول الدكتور كمال عمران في كلمة التحرير مسألة التسامح تحت عنوان(التسامح رحيق الحداثة: لاتجديد الا في حياض التسامح) وشدد فيها على إن الزمن يفرض التسامح فرضاً عقلياً ووجدانياً, وإن العصر المشبك سريع التحولات, المفعم بالتكنولوجيات المتطورة, يستدعي مسألة التسامح ويفرضها, ولا يترك قيد أنملة للاستغناء عنها.إن الظرف العالمي الجديد, والثقافة الكونية المنتشرة, لا يدعان فرصة للإزورار عن عقلية التسامح, وعن الثقافة الملازمة لها. ويسعى هذا الطرح إلى أن يرصد الإشكالية رصداً عميقاً, يراعي المرتكزات والخصائص المتعلقة بها, حتى ينأى بالمسألة عن التوظيف الإيديولوجي والسياسي. ويمكن أن نذكر سببين على الأقل للإبانة عن ضرورة الالتزام بالمعالجة المتواصلة: السبب الأول بنيوي, يرجع إلى بنية المعرفة, وبنية الثقافة, بل إلى الواقع الحضاري, وقد عرف نسقاً في التطور أفضى إلى ضرورة التآزر, وصياغة القيم الملازمة له, ولعل أبرز قيمة فيها هي التسامح. والسبب الثاني ثقافي ـــ بالمعنى الجامع بين البعدين المادي والذهني ـــ يقترح على مسائل العولمة الشائكة المعقدة, الحاملة لمظاهر السلطة والهيمنة, بديلاً جوهرياً عن الحجاج والمناقشة في كل مواجهة, مؤداه الحاجة إلى الاستئناس ـــ الذي لا يضعف ولا يفتر ـــ بالتسامح رؤيةً وسلوكاً. ويبدو من الواضح أنّ للتسامح مراتب وأنساقاً. وأنّه ظاهرة لا تقبل التجزؤ. فالتسامح كلّ متعاضد المرتكزات والعناصر والأهداف, وهو لا يبيح أن يخضع للتناقض أو التنافر. فلا يجوز القول به والعمل بضده, أو الدعوة إليه ونسفه, أو رفع شعارات له ونفيه في الممارسة, وإلا تعذر التوظيف القائد إلى الفاعلية الاجتماعية. وقد يغير من شفرة السلوك الثقافي ذي النزوع إلى الأنانية وإلى المصالح الضيقة. التسامح على المستوى المرجو، قول وفعل, في الكبيرة والصغيرة, مع الحبيب والمشاحن, مع المؤازر والخصم, بل إنه سلوك في الواقع, ودربة في الخيال, ومران في الافتراضي. وقد آثرنا أن نتعرض لمنعطفات نعتبرها ذات بال في الثقافة العربية الإسلامية. وما نريد أن نقره بكل وضوح هو أن الطريقة التي بها يتمكن التسامح لا تكون إلا طريقة عقلانية ــــ بملء العبارة ــــ وأن الأرضية التي عليها يتكئ يجدر أن تتهيّأ لتلك الطريقة, وهي تتلخص في أن الثقافة الدينية اليوم تحتاج احتياجاً ضرورياً إلى التحديث, بمعنى أن كل ما أنتجه الأسلاف إنما أنتجوه في حدود البنية التقليدية ــــ في كل أوجه الهيكل الاجتماعي ــــ التي كانوا يعيشون. وأن البنية التي نعيشها اليوم جديدة، حداثية تفرض ثقافة دينية حداثية, مستمدة من جوهر الحداثة, وهو القادر على أن يقي المجتمع الإسلامي من النشاز الحضاري, ومن الاضطراب الاجتماعي, ويستعدّ بنجاعة إلى إنتاج عنصر دافع نحو تحقيق النمو, دون رفض للموروث, أو كسر للصلة بالأسلاف. وفي باب حوارات نشرت المجلة حوارا مع الدكتور محمد الطالبي عن (الاسلام والحوار الديني) أوضح فيه ان القرآن نفسه حوار، من أوله إلى آخره. اذ نجد فيه على سبيل المثال فعلاً كثير الورود هو فعل "القول". وهو فعل مهيمن، تجده في كل صفحة. ويرد أيضا بصيغة "قال"، "قلتُ"، وفي كثير من الأحيان بصيغة الأمر "قُلْ". إن ذلك يعني أولا أن القرآن، في ذاته، حوار مع الإنسان. إذ لا معجزات في الإسلام، والإيمان يُكتَسَبُ عبر حوار الله مع الإنسان، مطلقاً. إننا عادة ما نقرأ في القرآن "قالوا"، "قال الكفّار"، "قال المشركون"… كان أغلب العرب في زمن النبي مشركين ملاحدة. وكان لهم معبد للآلهة، ولكن لم يصلنا نص مكتوب يعرّض لعقيدة تعدد الآلهة عندهم، كما هو حال الديانات الشرق أوسطية القديمة في اليونان وروما. فمن ناحية نجد حواراً مع الكفار الذين يعلنون لمحمّد (ص): " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر" (الجاثية، 45 ). ان حواراّ حقيقياّ يستلزم أن يأتي كل منا للادلاء بشهادة عن عقيدته, ويمكن لهذه الشهادة في أقصى الحالات أن تصبح اعلانا, ولكن بشرط ان لاتتحول الى هدف للحوار. انني أصر على تنبيه شريكي المسيحي: لاتعلن لي شيئا ولكن تعال وقل لي ببساطة ((سأدلي بشهادة عن عقيدتي )). ان تفعل فإنك تتر ك لي حريتي . عكس ذلك عندما تقرأ علي الأناجيل, مهما كان ارتفاع درجة الاحترام في طريقة القراءة, لأنك بذلك تدعوني بشكل فاضح الى اعتناق عقيدتك. وهو أمر لايمكن ان أقبله, لنفسي وللآخرين. انني اعتقد أن الأمر سخيف تماما عندما تعلن لأحدهم ((سأبلغك القرآن)). تعالوا ندلي بشهاداتنا. عندما أكتب, فإنني أقدم شهادة عن عقيدتي, تاركا للآخر حرية التفكير وقول مايريد, الحرية في الرفض والقبول, لأن الأمر يقتصر على مجرد شهادة, هي جزء من حياتي اليومية. من الممكن ونحن ندلي بشهاداتنا المختلفة أن نكتشف قيما مشتركة, تجعل القيام بأمر مشترك ممكنا تماما. ان هدف الحوار ليس العمل سوية بإتباع نفس التصور/ المثال. يستطيع كل واحد منا, مع الاحتفاظ بخصوصياته الشخصية,أن يرقى بالعدالة التي هي قضية الجميع. عندما ننظر لها بعين العقيدة, ونثريها بإسهامات الآخرين, يمكن لقيمة العدل أن تستفيد من أدوات أحسن ومن ضمانة أكبر للدفاع عنها في عالمنا اليوم. ان ذلك يحيلنا الى المصطلح الثالث الذي أستعمله كثيرا وهو مصطلح التنافس الرفيع. في الشهادة يحتفظ كل منا بحريته. أسمعك, وعندما أكتشف بعضا من ثراء في كلامك, أو ما يمكن أن يضيف لي روحا اخرى, أن يعينني على قراءة أفضل لنصوصي الشخضية, فأهلا وسهلا. أكون أنا الذي بادر, قرأ, فكك, وجد شيئا يعنيه. واشتمل العدد على مناظرة عميقة وشاملة بين فيلسوف الدين الشهير جون هيك والدكتورعبد الكريم سروش, تطرقا فيها الى رؤية كل منها لتحديث اللاهوت وتفسيرهما للتعددية الدينية, واشتقا عنوانها من عبارة ( صورة لمن لاصورة له) الواردة في شعر جلال الدين الرومي, وأشار الدكتور سروش الى آيتين في القرآن ، ترمز كلّ منهما إلى التيارين المتنافسين (الأشاعرة والمعتزلة). وبالرجوع لهما، يمكننا فهم كيفية غلبة أحدهما على الآخر. وتحدد هاتان الآيتان محل النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة بشكل دقيق، فتقدّمان لنا إلهين متفاوتين. الآية الأولى هي: لا يُسأل عمّا يفعل, وتعكس لنا الرب القاهر الذي لا يجيب أحداً، ولا يحق لأحد انتقاد أفعاله أخلاقياً. أي المنحى الذي يقول: الحسن ما حسّنه المولى، وليس للأفعال حسن وقبح ذاتي. وهذا الفهم للرب، أي الفهم الأشعري أصبح الشائع والغالب في التراث الإسلامي. لكن هناك آية أخرى تعكس بوضوح الرأي المقابل، وهي: رسلاً مبشّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. إذ يقول الله في هذه الآية، بأنّه في مقام الألوهية يقوم بما لا يمكّن الناس الإشكال عليه وإقامة دليل ضده. أي يمكن للناس انتقاد أعمالي أنا الرب، وللناس الحق في الحكم الأخلاقي والعقلي على أفعالي. في الحقيقة يضع الله نفسه محل المسائلة. طبقاً لهذه الآية، يسعى الله للدفاع عن نفسه، كي يقوم بأعمال مبررة عقلياً وأخلاقياً، فيقبل بأن يسائله الناس ويحاسبونه. وهكذا نرى في التراث الإسلامي ربين: أحدهما معرّض للمساءلة، والآخر قاهر لا يقبل المساءلة. بينما كان بإمكاننا عبادة إله آخر. وكان من الممكن أن يكون لدينا تصوّر وفهم آخر عن الرب. فيما صرح جون هيك بأن الاستبداد السياسي للحكام كان له دور مؤثر في تكريس هذا التصور عن الله, فاذا كان الرب غير قابل للمساءلة, كذلك حال خليفته في الأرض, وبالعكس. ويقول عبد الكريم سروش: . أنا شخصياً أبني فكرة حقوق الإنسان على فكرة جواز مساءلة الرب. وأعتقد بأنّ الله يطرح الإنسان كموجود له حقوق، وبعضها غير قابل للسلب. واستناداً لهذه الحقوق يمكن للإنسان مساءلة الله نفسه. لكن كما أشرت، يروّج اليوم للرب القاهر، سواء في العالم الشيعي أو السني. كما ضم العدد مناظرة ثانية بين السيد محمد خاتمي والمستشرق الالماني فان اس والبروفيسور كونغ والسيد يوهانس راو الرئيس الألماني السابق حول (ضرورات الحوار بين الحضارات والاديان), وأشار محمد خاتمي الى ميراث الشاعر الألماني غوته والمفكر الباكستاني محمد اقبال كنموذجين رائدين للحوار بين الثقافات, فقال: مع ان محمد إقبال عاش في أرض الهند المتضررة بالاستعمار، وقد نبت ونما في ((أرض ميتة)) على حد تعبيره، إلا انه لم يختزل الثقافة الغربية في جانبها الاستعماري. كان الغرب في رأيه، وبعيداً عن كل التقييمات الرافضة أو المستمرئة، أرض مفكرين مثل شوبنهاور, ونيتشه، وتولستوي، وهيغل، وماركس، وبايرون، وكونت، وانشتاين، وبتوفي، ولوك، وكانط، وبراونينغ. لذلك جمع بين هؤلاء، وبين أساطين الفكر الشرقي، نظير الرومي وحافظ، في حوار متبادل، محاولاً التأشير إلى أوجه التباين بين الفكر الغربي والفكر الشرقي. وللمفكرين المسلمين رسالة إضافية تتبلور في التلازم بين معرفة ((الآخر)) ومعرفة ((الذات)). معرفة ((الآخر)) تزيدنا وعياً بأحوال ((الذات)) كما ان ((معرفة الذات)) تضاعف من معرفتنا بالآخر. ففي عالم الإنسان، وخلافاً لعالم الأشياء، لا توجد ((غيرية)) مطلقة. وطالما نظرنا للآخرين بعين ((اللامطلق)) واعتبرناهم أشياءً وأعياناً مادية، لن يكون بمقدورنا التوافر على معرفة ناجمة عن الفهم، وهي المعرفة الحقيقية في الميدان البشري. وأجاب البروفيسور فان اس قائلا: حينما نتحدث عن حوار الحضارات، فإننا في الحقيقة إنما نستخدم إحدى الاستعارات، فالثقافات لا تتحدث، إنما نقصد ان الأفراد هم الذين يتحاورون ويتحدثون فيما بينهم، بعيداً عن التخوم الثقافية التي تحدهم، أو انهم ينبغي ان يتحاوروا ــ والمعنى والمفهوم الرئيس في هذا الخضم هو التفاهم المتقابل، وهو مفهوم لعب دوراً مميزاً في الفلسفة وعلم الأديان بألمانيا. القضية المطروحة هنا لا تتصل اتصالاً وثيقاً بالخطأ أو مخالفة الحقيقة، إنما هي سوء تفاهم، ففي مثل هذا الحوار تتبادر إلى الذهن ضروب متنوعة من سوء الفهم. إذ ينبغي التنبه إلى ان الحقائق لا تمارس دوراً كبيراً في تعريف الثقافات، إنما يقع الدور الرئيس على أصحاب الثقافات، ومن الممكن بروز سوء فهم بين أصحاب الثقافات المختلفة خارج حدودهم. هذا هو الموضوع الذي سأتناوله الآن. الأهم من كثير من المواضيع هو بروز سوء الفهم داخل اللغة نفسها. بأية لغة يجب ان يتم هذا الحوار؟ الأفضل طبعاً ان يتم بلغة تلك الثقافة، بيد ان هذا يستدعي التوفر على جهاز جد معقد، ولا يتلخص كل شيء في الأدوات والوسائل التي نستخدمها دائماً. أعتقد ان من المتعذر عولمة الحوار من خلال تكلم الجميع باللغة الإنجليزية مثلاً. فالذي يعرض لغته يعرض أيضاً روحه بشكل من الأشكال، ذلك ان المفردات والأفكار تتعين لغوياً وتتطور تاريخياً. والحال ان الغربيين لا يجيدون اللغات الشرقية للأسف، أما في الشرق فإن الضالعين في الإنجليزية والفرنسية كثار، بل وحتى المتقنين للغة الألمانية، وحضرتك نموذج جيد لهم. اعتقد ان على الطلبة الجامعيين الألمان ان يعكفوا على إتقان اللغة الفارسية، حتى يستطيع كل فرد التعرف على الأمور من عالم أفكاره وتصوراته. أعلم ان قدرتنا في هذا المجال محدودة، ولكن يتعين ان ينصب جهدنا على الدخول في عالم لغات الآخرين وأفكارهم. كلما تحاورنا بلغة أجنبية، فسوف نتعرض للتمييز، وعلى العكس فإن الذي يحالفه الحظ، ويستطيع ممارسة الحوار بلغته، ستكتسب لغته لون الهيمنة تلقائياً. هذه لمحة مقتضبة عن إحدى حالات سوء الفهم، وطريقة حل مقترحة لها. وفي باب دراسات كتب الدكتور داريوش شايغان عن (تزامن الثقافات المتنوعة وفوضى البحث عن هوية) وشدد على انه في عصرنا الراهن، ما عادت هناك حضارة متجانسة رتيبة. مهما اختلقنا من قطبيات ثنائية, وأسهبنا في الحديث عن ((الغرب والآخر)) و((الغرب والشرق)) و((الشمال والجنوب))، فسوف تذوب مختلقاتنا هذه, وتتألف أيضاً في التراكيب المتنوعة، والعلاقات المتغيرة، والمنظومات التي تنهار وتتشكل في كل لحظة. الحضارة الغربية إذ تمتلك عناصر مشتركة كثيرة تستمدها من التراث اليهودي ــ المسيحي, واليوناني ــــ اللاتيني المركب، فانها ليست متناسقة كما تصورها البعض. الفرنسيون لا يشبهون الألمان، ويختلفون أيضاً عن الإنجليز والإيطاليين. يوضح هرمان فون كايز لينغ في كتابه الممتع ((التحليل الطيفي للقارة الأوربية)) والذي صدر في العشرينات من القرن العشرين، كيف تستخدم الشعوب الأوربية أساليب تجسيم متفاوتة جداً للتعبير عن عواطفها وأفكارها. ((الإنجليز يعيشون بالغريزة وعالم الشهادة، بينما يتألق الألمان في الفكر الانتزاعي. الألماني بحسب طبيعته وعادته ومهاراته، إنسان يعيش للوهلة الأولى في عالم الانعكاسات الموضوعية)). وما الذي يمكن ان نقولـه عن الفرنسيين، هذا الشعب ذي الذهنية المتفتحة النيرة والمشاعر القوية القاطعة، شعب يربي الزهور ولا يشعر بالدعة إلا في حدائقه الغناء؟ ((الفرنسيون هم الشعب المثقف في أوربا بكل ما للكلمة من صدقية)). وبالرغم من هذا التنوع، فنحن نعيش في حضارة عالمية. ولا جرم ان أبرز المفكرين المعاصرين لهم خلافاتهم النظرية بشأن ماهية هذه الحضارة. البعض يعتبرها ثمرة النزعة العدمية، وطائفة تراها نهاية الميتافيزيقا، وفريق يؤشر إلى ما تعانيه من انحطاط أخلاقي وفقر دم مبدأي. مهما كانت السمات المتناقضة، والإيجابية، والسلبية التي تنعت بها هذه الحضارة، يتوجب الاعتراف أنها من حيث هي تحقق موضوعي لوعي تأملي لدى الإنسان المعاصر، تقبل الانشطار لتطل على نفسها من الخارج، فتتيح ضرباً من المراجعة لكل أطوار الإنسانية التكاملية، وتستطيع أيضاً استعراض هذه الأطوار إلى جانب بعضها كما في مدينة الافانين. لأن الرؤى القديمة حبيسة مستوى إدراكي معين، لم يكن بوسعها اكتساب طابع خارجي (الفكر التقليدي ليس بمقدوره الخروج عن ذاته ونقدها). بينما تقدر الحداثة على التحليق في مستويات ادراكية مختلفة ، وصياغة تقييمات صائبة لها، من دون انتماء لثقافة محددة. هذه الحضارة المنفتحة بطبيعتها، ذات وعي نسبي استيعابي للأشياء. ومن شأن هذه السمات ان تؤهل الحضارة الحالية لربط كل مستويات الوعي البشري المتحركة مع بعضها بنحو متزامن. أنصار التعددية الثقافية ـــ الذين يهاجمون المركزية الأوربية ويعدونها مسؤولة عن كل مآسي الإنسانية والعالم ـــ لا يتفطنون إلى انه من دون هذه الحضارة العالمية التي ولدت في أوربا على وجه التحديد، لما توفرت لأحد الأدوات النظرية اللازمة لنقد هذه المركزية الأوربية. انهم لا يلاحظون ان هذه الحضارات القومية لو سادت وهيمنت (وقد شاهدنا عدة نماذج لها إلى الآن) لما تقبلت الآخر (وان ظاهرياً). وليس هذا فحسب، بل لرفضت وألغت في اتون شموليتهاكل نوع من الآخرية لا يتطابق مع رؤيتها الضيقة للأشياء. الوحي والتجربة النبوية أما الملف الثاني في العدد الجديد من قضايا اسلامية معاصرة والمنشور تحت باب (أفكار للمناقشة) فقد عالج موضوعا في غاية الأهمية, يتصل ببيان معنى الوحي وطبيعة التجربة النبوية. وتصدرت الملف دراسة للشيخ محمد مجتهد شبستري تتحدث عن الكلام الوحياني وتشرح (المعاني المتنوعة للوحي عند المتألهين المسلمين) ببيان نظرية المتكلمين من المعتزلة والاشاعرة ثم تشير الى نظرية لعالم كلام شهير من القرن الثالث الهجري هو ابن كلاب، ويعد من الذين أرسوا دعائم التيار الأشعري ومهدوا له الأرضية قبل أبي الحسن الأشعري. فقد تبنى ابن كلاب النظرية التي نادى بها الأشاعرة من بعده، وهي ان كلام الله من صفاته الذاتية القديمة غير المخلوقة. على انه تبنى إلى ذلك عقيدة مهمة أخرى تجعل نظريته في هذا الباب مستقلة عن غيرها. وقد رفض الأشاعرة عقيدته الخاصة هذه، وهاجمها بعد ذلك في القرنين الرابع والخامس للهجرة متكلمون فحول من المعتزلة والأشاعرة كالقاضي عبد الجبار وأبي الحسن الأشعري، مضافاً إلى ابن تيمية في القرن السادس. فحوى هذا المعتقد الذي امتاز به ابن كلاب هو ان الكلام النفساني والقديم لله رغم نزوله في شكل كتب على الأنبياء، إلا ان هذا الكتاب لم يظهر إطلاقاً على صورة ((مصحف)) أي كتاب مدون. ويعتقد ابن كلاب ان الشكل والتعبير العربي أو العبري لكلام الله ليس عين كلام الله، والقرآن الكريم هو الرسم والتعبير العربي لكلام الله وليس عين كلام الله.فهو يرى ان نزول الوحي القرآني وسماعه من قبل رسول الإسلام، عملية انبثقت في غمرتها ظاهرة و ((تعبير)) لها خصائص اللغة العربية. وبفعل القصور والقيود التي تمتاز بها اللغة العربية كظاهرة، فقد تقيد الكلام الإلهي عند نزوله وأصبح بشرياً، ولهذا لا يتسنى القول ان ما بأيدينا من قرآن هو عين الكلام الإلهي. يعتقد ابن كلاب ان كلام الله كذات الله، وكما ان ذات الله لا تتجسد بحال من الأحوال، فإن كلام الله لا يوضع في متناول يد الإنسان بأي شكل من الأشكال حتى في صورة مصحف. وحسب نظرية ابن كلاب، فإن ما يوجد بين يدي الإنسان بوصفه كلاماً وحيانياً يمكن إسناده إلى الله من حيث هو تعبير عن كلام الله النفساني، ولما كان هذا التعبير ليس هو كلام الله النفسي (القائم بذات الله والذي لا ينزل) فهو مخلوق، وعبارة عن ذلك الإدراك غير العادي الذي يخلق للأنبياء فيفصحون عنه للآخرين. وبعدها يورد مجتهد شبستري نظرية الفلاسفة المسلمين, ويختتم الدراسة بذكر رأي محيي الدين ابن عربي, الذي كان أول من اقترح رؤية أخرى بخصوص معنى الكلام الوحياني الإلهي، وانطلق منها للتحدث بشكل صريح عن استمرار الوحي مقسّماً النبوة إلى تشريعية وغير تشريعية، معتبراً ختم النبوة زمنياً حالة تختص بالنوع الأول. انه لم يجعل أساس نظريته ((الوحي في نفسه)) كمجموعة من الحقائق والمعارف لجميع البشر ولكافة الأوقات. ويعتقد ابن عربي ان وحيانية الكلام منوطة بطبيعة تأثيراته في الإنسان. ((كلام واحد)) قد يكون بالنسبة لشخص معين وحياً، ولا يكون كذلك بالنسبة لآخر. للتثبت من وحيانية الكلام يجب ان لا يطرح السؤال: هل ينقض هذا الكلام قوانين الطبيعة أم لا؟ بل ينبغي إثارة السؤال: ما الذي يفعله ذلك الكلام بالإنسان مما لا يفعله كلام الآخرين. وحيانية الكلام تتحقق بصفة ان هذا الكلام ((كلام آخر تماماً)). في ضوء هذه النظرية يكون القرآن الكريم وحيانياً بالنسبة لنبي الإسلام، إلا انه ليس وحيانياً للآخرين ما لم يكن ((كلاماً آخر تماماً)) بالنسبة لهم أيضاً. ((الوحي في نفسه دائماً وللجميع)) فكرة لا معنى لها.أشار ابن عربي في مواضع عدة من كتابه ((الفتوحات المكية)) لنظريته هذه. ومن ذلك ما نختصره وننقل مضمونه فيما يلي: ((ما هو الوحي؟ الوحي إشارة تقوم مقام العبارة. العبارة تعبر إلى المعنى المقصود منها، لهذا تسمى عبارة. أما في الوحي فلا يقع عبور من شيء إلى شيء. الإشارة في الوحي هي عين المشار إليه.الإفهام والمفهوم والفهم حقيقة واحدة في الوحي، فالوحي يقع سريعاً إلى هذه الدرجة. وإذا لم تدرك اتحاد هذه الحقائق الثلاث في الوحي فلست ممن يتقبل الوحي ويستلمه... الكلام الوحياني هو الذي تكون له هذه الخصوصية... ولهذا حينما يتكلم الله وحياً تندهش لذلك الملائكة. وحينما تكلم مع موسى وحياً دهش موسى... تأثير كلام الله الوحياني في روح مستمعة سريع ونافذ جداً، وهذا ما لا يدركه إلا العارفون بالشؤون الإلهية... ولذا حينما يكون ثمة كلام وحياني فلا يمكن تصور معارضة له أو مخالفة، لأن سلطان الوحي المعنوي أقوى من ان يقدر أحد على مقاومته. سلطان الوحي على مخاطبيه أقوى بكثير من سلطان المخاطب على نفسه. يقول الله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. فياأيها الولي: متى ما ظننت ان الله قد أوحى إليك، انظر إلى نفسك، هل فيها شيء من الترديد أو المخالفة أم لا؟ وإذا كان قد بقي لك شيء من التدبير والتفكير والتحليل فاعلم انك لست صاحب وحي وانه لم يوح إليك. ومتى ما استولى عليك ما أوحي إليك بالتمام وجعلك أعمى وأصماً، وحال بينك وبين فكرك وتدبيرك وهيمن عليك بالتمام والكمال، فاعلم انه قد أوحي اليك . يبدو ان لأطروحة ابن عربي حول ((الكلام الوحياني)) ميزتين محوريتين: الميزة الأولى انها لا تعاني من مشكلات نظرية وقع فيها المتكلمون والفلاسفة, مثل نقض قوانين الطبيعة وخرقها بتدخل إلهي مباشر، أو نسبة الكلام الوحياني إلى النبي حقيقةً، وإلى الله مجازاً. والميزة الثانية انها تتغلب على إشكالية التعارض بين الوحي والعقل التي تتبدى في صورة تعارض بين الوحي والفلسفة والوحي والعلوم، وذلك من خلال تبيين الوحي بآثاره والقول باستمراره. تضع هذه النظرية الوحي في أفق غير أفق العلم والفلسفة، فهي تقدم للإنسان مساحة أخرى غير مساحتي العلوم والفلسفة، وهي مساحة ((الآخر تماماً)). نظرية ابن عربي هذه، والتي استساغها العديد من العرفاء المسلمين، ممكنة المقارنة تماماً مع نظريات بعض المتألهين المتأخرين من البروتستانت نظير كارل بارث وبول تيليخ. حينما نطالع مبحث العقل والوحي لتيليخ في كتابه ((الثيولوجيا المنظمة)) سندهش حقاً لمواطن الشبه العديدة بين كلامه حول الوحي ونظرية ابن عربي مارة الذكر. وكأن سالكي طريق الحقيقة مهما كانت دياناتهم ومسالكهم، وفي أي عصر ومصر عاشوا، يلتقون في نهاية المطاف عند نقطة واحدة. وخصص العدد 33-34 من قضايا اسلامية معاصرة 150 صفحة الى أشد القضايا الاشكالية اثارة في التفكير الديني الراهن, وهي قضية التجربة النبوية التي تحدث عنها المفكر المعروف محمد اقبال في كتابه(تجديد التفكير الديني في الاسلام) ثم عالجها الدكتور فضل الرحمن في دراسة هامة مازالت باللغة الانجليزية, واخيرا بحثها الدكتور عبد الكريم سروش بحثا منهجيا موسعا, واقترح لها عنوانا استقاه من المتصوفة والعرفاء (بسط التجربة النبوية). وأثار طرح سروش لهذه القضية جدلا عميقا لدى الباحثين والدارسين في الحوزات العلمية والكليات والمعاهد اللاهوتية في ايران, وكتبت حتى اليوم آلاف الصفحات في مناقشتها. وكعادتها في اقتحام الممنوع التفكير فيه بادرت مجلة قضايا اسلامية معاصرة لترجمة ونشر نص الدكتور سروش المعنون (بسط التجربة النبوية) واردفته بحوار شامل معه لبيان كافة أبعاد الموضوع ومدياته, والحقت ذلك بمناظرة بين الدكتور سروش والباحث بهاء الدين خرمشاهي, ثم مجموعة ردود ومراجعات نقدية هامة لعدة باحثين. ويلخص عبد الكريم سروش مايقصده ببسط التجربة النبوية بقوله: ان نبي الاسلام(ص) كانت له تجربته على مستويين, والاسلام حصيلة هذين المستويين من التجربة: التجربة الخارجية، والتجربة الداخلية، وقد ازداد الرسول ايغالاً في كلا النمطين مع مرور الوقت، فنما دينه وازدهر وتكامل. في تجربته الخارجية (الموضوعية) شيد المدينة وادارها, وقاتل ونازل الاعداء, واعدَّ الاصدقاء, و…الخ، وفي تجربته الداخلية عاش الوحي والرؤيا والالهام, والمعراج والمراقبة والتفكر ، فتطور على هذا الصعيد ايضاً وزاد رصيده فيه . وسار الاسلام بهذه السيرة والهوية، ينمو ويتكامل الى حين وفاة الرسول(ص)، والآية الكريمة القائلة ((اليوم اكملت لكم دينكم)) تشير الى إكمال المستوى الأدنى لا الاقصى والأعلى من الدين، بمعنى أن الحد الادنى الضروري من الهداية قد منح للناس، اما الحد الاكثر الممكن فسيظهر لاحقاً في غضون التكامل التدريجي والبسط التاريخي للاسلام. وهنا لابد من الالتفات بفطنة الى التباين الدقيق بين ((الحد الادنى اللازم)) و((الحد الاقصى الممكن)). تكامل الدين يستلزم تكامل شخصية الرسول(ص) الذي يعد الدين خلاصة تجاربه الفردية والاجتماعية. واليوم ونحن في زمن غياب الرسول(ص) لابد من بسط التجارب النبوية الداخلية والخارجية، ومواصلة اغناء الدين وتوسيعه. العرفاء إذا يتألقون بتألق النبي، ويسيرون الدرب في ظله ويقتاتون على مائدته، يضيفون الى تجاربنا الدينية ويزيدونها غنى، وتجربة كل واحد منهم فريدة من نوعها، لذا فهي جديرة بالمعرفة والاستفادة. إذا كان حافظ الشيرازي افضل شعراء الفارسية، ولوكانت تجربته الفنية والشعرية اثرى واسمى التجارب، فهذا لايعني غض الطرف عمّا جادت به قرائح جامي، وانوري، ومنوجهري، واخوان، وسبهري، وسواهم من الشعراء، فلا نعترف لتجاربهم بدور في اثراء ((التجربة الشعرية)). كلهم من اولهم الى آخرهم مساهمون محترمون، ولكل منهم مكانته في تاريخ هذا الفن. عالم التجربة عالم متعدد، فالتجارب الباطنية والعرفانية للرومي، والغزالي، وشبستري، وحيدر آملي، وسواهم من العرفاء، تسهم جميعها بمقادير متفاوتة في الاضافة للتجارب الماضية. وإذا لم تكن فكرة ((حسبنا كتاب الله)) صحيحة، فان ((حسبنا معراج النبي وتجربة النبي)) غير صحيحة ايضاً. تجربة العشق العرفاني على سبيل المثال من التجارب العرفانية اللطيفة التي اثرت التجارب الدينية للمتدينين. وكذلك الحال بالنسبة للفكر الشيعي الذي ركز على مفهوم الامامة، فافتى في الواقع ببسط واستمرار التجارب النبوية، وهذا من ضروريات الحركة والتكامل الديني، بعدما ولد الدين من رحم الحركة والتكامل المستمر . وفضلاً عن التجارب الداخلية، فان التجارب الموضوعية الاجتماعية تضاعف هي الاخرى من سعة الدين وتكامله. فالمسلمون بفتوحاتهم وتعرفهم على الثقافات الاخرى، وببسطهم للفقه والكلام والاخلاق طوّروا دينهم، وغذّوه، ونمّوه، وزادوا من تفصيله، بعد ما كان مجملاً، ومادام باب هذه التجارب مشرعاً فالدين مستمر في نموّه وتكامله. حتى انشقاق المسلمين فرقاً متعددة ينبغي النظر اليه من هذه الزاوية، فالقول إن ظهور الفرق الاسلامية المختلفة كان بسبب مؤامرات وخطط مسبقة، وارجاع الاحداث التاريخية الكبرى الى مؤامرات حيكت من قبل هذا وذاك من التسطيح والتبسيط للمسألة. ألم يكن من ضروريات البسط التاريخي لهذا الدين انبثاق فرق مختلفة داخل اطاره الكلي؟ ثم ألم يكن ظهور الشيعة والسنة من مقتضيات هذا البسط التاريخي؟ المدرسة الفكرية التي قامت في ضوء مستويات التفاعل والجدل تحافظ على حياتها بالتعاطي والتجاذبات، فتنمو وتتكامل وتضيف الى تجاربها، وهذا هو المسار الطبيعي الذي يجب ان تقطعه. ألم يكن من الطبيعي ان تستمر ذات التعاملات والتجاذبات والاسئلة بعد غياب النبي(ص) فتؤدي الى تشعبات عقيدية وسياسية بين المسلمين؟ وليس معنى هذا الكلام بالطبع اننا نؤمن بصحة جميع الآراء والمذاهب، بل ان كلامنا اساساً لايمت بصلة لتشخيص ما هو حق مما هو باطل، فذاك مبحث كلامي ينتمي لمعارف الدرجة الاولى، انما الكلام عن تحليل عام لهذه الظاهرة التاريخية. لاشيء اوفق لطبيعة الاشياء من هذه التشعبات والافتراقات. الدين الذي يوجد تدريجياً يتكامل تدريجياً ايضاً ويبلغ مدياته الواسعة، وحياته اللاحقة رهن بحفظ ظروفه الاولى. لم يكن هذا الدين كتاباً واحداً فحسب، حتى يقال لو بقي هذا الكتاب بقي الدين، حتى لو كان بمنأىً عن الجدل والمماحكات التاريخية. كما لم يكن هذا الدين رسولاً فقط، لنقول انه زال بوفاة الرسول. هذا الدين حوار تدريجي بين الارضي والسماوي، وتجربة نبوية تاريخية طويلة. وسيبقى المسلمون فاعلين متحركين إذا ما واصلوا هذه التجربة، مستلهمين الوحي معتمدين على الينابيع الاولى، ومقتدين بشخصية رسولهم الكريم، فينطلقون بالكمال الأدنى صوب الكمال الاقصى. ان التجربة والمدينة والسنة والأمة هي بمجموعها تراث نبي الاسلام التي يجب ان تُقرأ وتفهم مع بعضها. لا ننسى أن عرفاءنا موّنوا التجربة الدينية، ومفكرينا اضافوا للوعي والكشف الديني ما لايمكن تجاهله. لايصح القول أن هؤلاء لم يكونوا سوى شراّحٍ للنصوص السالفة ومجترين للتجارب الاولى. لقد كانت للغزالي كشوف دينية جديدة، وهكذا الرومي وابن عربي، والسهروردي، وصدر الدين الشيرازي، والفخر الرازي، وغيرهم. بل ان الاسلام تطور ونما بهذه الطريقة، فتجارب هذه الشخصيات ومكتسباتهم ومعطياتهم الشهودية والفكرية ثمينة كلها، ومغتنمة ومفيدة ومساهمة في تكوين الدين. لقد كانوا مكتشفين لا شراحاً فقط، وهذا هو سر عظمتهم. ولكن المؤسف هو أن مفكرينا تحولوا بعد احدى المحطات الزمنية الى مجرد شراح، ولم يضيفوا لكتاب الدين صفحة من ابتكاراتهم وتجاربهم. لقد نما الاسلام وتطور ونضج على امتداد التاريخ، واذا استمر هذا التكوّن والتكامل التدريجي، لأمكن التفاؤل باستمرار حياة الدين. ليس ثمة اليوم قول يمثل بالنسبة لنا حجة تعبدية دينية، لأن الحجية والولاية الدينية لرسول الاسلام(ص) فقط. وبعد أن طوت الخاتمية سجل النبوة. ما عادت شخصية أي انسان رصيداً لكلامه. الكل مطالبون بالحجة سوى النبي(ص)، لأنه هو حجة. اما المفكرون والمبدعون والمثقفون والشعراء فمن المتاح لجميعهم اسداء خدماتهم على ارض الثقافة الاسلامية، بغية تمديد حياة هذه الهوية المتكوّنة تدريجياً، والاضافة الى تكاملها وسعتها، والوفاء لهذا الدين المقدس، ومواصلة طريق رسول الاسلام(ص) حقيقةً لا مجازاً. لقد انتهى اليوم عهد المهمة النبوية، الاّ ان المجال لا يزال مفتوحاً لبسط التجربة النبوية. والاقتداء بذلك العظيم يستوجب مواصلة تجاربه الباطنية والاجتماعية والسياسية، والخوض في حوار واسع النطاق مع عالم الذات والواقع، الى جانب الحفاظ على روح الوحي، وولوج هذا الميدان بشجاعة وابداع، والانتقال من مجرد التقليد والشرح المتفرِّج الى الفعل والابتكار والاكتشاف ولعب الادوار، وان لا نهاب الكثرة والتعدد، ونحترم اصحاب التجارب في هذا المجال الخطير ونجلّهم. لقد كان وحي النبي وتجربته اجابات عن اسئلة الواقع، وحلولاً لمشكلات الواقع، واقناعاً للاذهان، وتنويراً للسبل والقلوب والابصار، ولم يكن مجرد قيام بواجب، أو تقديم ايديولوجية مرسومة مسبقاً. لم يكن الرسول (ص) يفرض تجربة انتزاعية على الواقع، انما قضى عمره يزاوج بين التجربة والواقع. واليوم ايضاً يتحتم تبديل التدين الى تجربة، تهدف الى تذليل المشكلات، واقناع الارواح، وحل العقد، وفتح الآفاق الرحيبة. وكأن الوحي ينزل من جديد، وكأن الواقع يؤخذ تارة اخرى بنظر الاعتبار من زاوية التجربة والوعي الديني. اليوم ايضاً ينبغي عرض الدين كتجربة تتحول وتتفاعل وتتوالد(لاكايديولوجيا مغلقة محددة مسبقاً ومنجزة بتمامها) لابشكل اضطراري, أو خوفاً من طعن الطاعنين، وانما بنحو اختياري انطلاقاً من التجريب الاكتشافي، وليس على صعيد الفقه وحسب، بل في مضمار المعرفة والتجربة الدينية الواسعة الفسيحة. ذات التفاعل والتلائم الذي كان بين تجربة الرسول الدينية، والعناصر الفاعلة في عصره، والحاجات والاسئلة والعقليات التي زامنته، يتوجب أن يتوفر اليوم ايضاً بين التجربة الدينية والعناصر ذات التأثير في زماننا. والاّ فالانسان الحديث الذي لايجد نفسه مخاطبا من قبل الدين ولامشاركاً في التجربة الدينية المعاصرة، ويلفي حياله ديناً استيفائياً متشدداً تسلطياً، يفتقد المرونة، ويطالب بالخضوع التام، لن يختار سبيل التفاهم والتسليم طبعاً. ان الخطاب لايكون له معنى الاّ إذا كان ثمة مخاطب، وعلى المخاطب المعاصر أن يجرِّب الدين كخطاب موجّه اليه، هذا هو مقتضى ومعنى التأسي بالنبي. وضم الملف مناقشات وردود على ما أفاده الدكتور سروش, للدكتور آرش نراقي بعنوان (السؤال عن التجارب الوحيانية : اطلالة نقدية على نظرية بسط التجربة النبوية) وخلص نراقي الى أن من الممكن إعادة صياغة الفهم التقليدي عن الوحي على أسس عقلانية. وعلى الأقل، لا أرى مبرراً لاعتبار مصير الفهم التقليدي أسوء من القراءات البديلة, مسبقاً. ومن غير المعلوم أن تكون المشاكل الفلسفية لنظرية ((الولاية الباطنية)) أقل من مشاكل ((تكلم الباري)). فهذه النظرية كما وردت في كتابات المتخصصين، كسروش نفسه، مبهمة وغير دقيقة، وتحتاج إلى إعادة صياغة. وفي النهاية غير معلوم أن تنفعنا أكثر من نظرية تكلم الباري التقليدية، وتحل الإشكالات. إذا صحّت نتائج هذا البحث، فعلينا الإقرار بأن القضيتين الأساسيتين اللتين طرحهما سروش حول الوحي النبوي لم تبتنيا على أسس إستدلالية محكمة. لكن هذا لايدلّ على أن تلك القضايا كاذبة. فنقض استدلالات قضية ما لا يكفي لوحده لإثبات بطلانها. فمن الممكن تقديم استدلالات جديدة، أو إعادة صياغة الاستدلالات القديمة وتقويمها. كما تضمن الملف نقدا شاملا لنظرية بسط التجربة النبوية للدكتور محمد لغنهاوزن, تناول ماذهب اليه الدكتور عبد الكريم سروش في مفاهيم النبوة والهداية والتعددية الدينية. وحذر لغنهاوزن بأن مثل هذا الفهم ربما يفضي الى تشويه مفهوم النبوة, فانه إنما يوحى الى الأنبياء على ضوء قرار إلهي بذلك، لا أن ذلك يعني بأن ثمة رؤية تكونت لديهم نتيجة لملاحظتهم الحقيقة من زاوية معينة ثم راحوا يتحدثون عن الرؤية تلك. علينا الحذر من تغيير مفهوم الوحي، إذ أن ذلك التفسير سيلغي الفوارق القائمة بين الأنبياء وبين الآخرين كالمتصوفة, وحتى من يزعمون النبوة والمخادعون. كانت ثمة اختلافات محدودة بين الجوانب العملية من شرائع الأنبياء إلا أن هنالك تفسيراً آخر لذلك الاختلاف، وهو لا يقوم على اختلاف بين وجهات نظر الأنبياء أو زاوية الملاحظة لديهم. وأضاف الدكتور لغنهاوزن: أعتقد أن من المناسب أكثر لمفهوم النبوة اعتبار مستويات الاختلاف تلك أنها ناشئة عن حكمة إلهية تلاحظ طبيعة المراحل التاريخية والحقب التي مرت على المجتمع الإنساني، فهو تعالى يعلم ما هو المناسب من التعاليم للفترة الزمنية المعينة التي أرسل فيها النبي الفلاني، ثم تأتي تعاليم تتناسب بشكل أكثر مع النبي التالي. وفي باب نقد العدد الماضي نشرت المجلة (مراجعة نقدية لملف العيش سويا في فضاء التنوع والاختلاف) للباحث غالب حسن الشابندر. وبالرغم من تدمير مركز دراسات فلسفة الدين واحتراق مخازنه ومكتبه وخسارته لممتلكاته في تفجير شارع المتنبي قبل شهر, غير ان مديره الدكتور عبد الجبار الرفاعي يصر على مقاومة غيوم الموت والنزعات الفاشية الوحشية للقتل والتفجير بمواصلة اصدار المركز لمجلته ومطبوعاته حول ثقافة التسامح, لان الكراهية لاتعالج بالكراهية وانما بالتسامح والصفح, وثقافة الموت لايهزمها سوى التشبث بالحياة وارادة الحرية واحترام الآخر. وتتجلى في الملف الثاني من هذا العدد روح الاقتحام لدى قضايا اسلامية معاصرة، هذه الدورية التي تقتحم الممنوع، وتجترح الاسئلة المحضورة، وتخوض في الممنوع التفكير فيه.
تحميل كتاب مجلة قضايا اسلامية معاصرة - العددان 33 - 34 ، كتاب مجلة قضايا اسلامية معاصرة - العددان 33 - 34 pdf للتحميل المجاني ، تحميل كتب pdf، وكتب عربية للتحميل، تحميل روايات عربية ، تحميل روايات عالمية ، روايات pdf ، تحميل كتب pdf ، تحميل جميع كتب ومؤلفات ،و اقرأ مقالات مفيدة ، تذكر كل هذا وأكثر على مكتبة الكتب.
هذا المحتوى مخفي
جميع خدماتنا مجانية .. يرجى دعمنا والمشاركة علي إحدى مواقع التواصل الإجتماعي
أو انتظر 10 ثانية لظهور المحتوى