الكاتب:
صدر في بغداد وبيروت عن مركز دراسات فلسفة الدين العدد المزدوج 28- 29 من مجلة (قضايا اسلامية معاصرة) - صيف وخريف 2004. ويستوعب العدد القسم الثاني من ملف (التسامح ومنابع اللاتسامح). وهي المرة الاولى التي تخصص فيها دورية اسلامية ناطقة بالعربية عددين لمعالجة وبحث قضية (التسامح) وتسعى لاكتشاف روافد ومنابع (اللاتسامح) في التفكير السلفي الاصولي وتسعى لتقويض مبرراتها الزائفة. ويضم العدد مجموعة مساهمات، تمهد لها مقالة لرئيس تحرير المجلة عبد الجبار الرفاعي، تحت عنوان (تحرير التدين من الكراهية) تناول فيها أسباب تفشي نزعة (هجاء الحياة وتمجيد الموت) في التفكير السلفي، وكيف ان هذا النمط من التفكير ينشد لعن المباهج، ويعمل على اجتثاث مصادر الفرح والغبطة والمسرة، ويمسخ الذوق الفني، ويتجاهل المظاهر الجمالية في الكون والحياة. ويشدد الرفاعي على ان التعامل مع الحياة طبقا لهذا المنطق، هو منشأ الشعور بالاحباط والفشل، وبالتالي هو الذي يفضي الى العنف، والرغبة في تدمير الحياة، وتحطيم كل شئ ينتمي اليها. وان مراجعة عاجلة لنموذج من الأدبيات السلفية سترينا بوضوح كيف ان هذه الأدبيات بقدر ما تتحدث عن مناهضة الآخر، وانحصار اسلوب التعاطي معه بالقتل والابادة، فانها تتكتم على مساحة شاسعة في النص، تتحدث عن الرأفة والرفق والعفو والعدالة والرحمة، حتى يخيل لمن يستمع الى منابر هذه الجماعات أو يقرأ بياناتها، انها تتحدث عن دين خاص تنحته، وتعيد تشكيله في اطار وعيها، وخلفياتها ومسبقاتها وقبلياتها ومفروضاتها الذهنية، ولاعلاقة لـه بالنص المؤسس . انه دين مشبع بالكراهية والاكراهات، ينفي الروح التطهرية للدين، ويمسخ ما يختزنه من معان انسانية سامية. واستهلت (قضايا اسلامية معاصرة) موضوعاتها بحوار مسهب مع المفكر التونسي الدكتور احميدة النيفر، تناول فيه مفهوم التسامح ومجالاته التداولية، وجذور التعصب في التراث والتجربة التاريخية للاجتماع الاسلامي. وقد أشار النيفر الى ان ماتركه ابن قيم الجوزية في أحكام أهل الذمة وغيره من الفقهاء أضحى تراثا تاريخيا، لاتربطه صلة بالواقع الراهن.وهو بمثابة أحكام الرقيق وغيرها من الاحكام التي نسخها الزمان والتحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية في الحياة البشرية. وكبديل عن هذه الاحكام ينبغي تقريب مفهوم المواطنة باعتباره يجسد المشترك للانتماء للمجتمع، ويمنح الكل حقوقا متكافئة، من دون النظر الى اعراقهم أوأديانهم ومذاهبهم، حسبما ينص على ذلك الميثاق العالمي لحقوق الانسان. كما يجب الانتباه الى ان ثنائيات (دار الاسلام ودار الحرب، دار الهجرة ودار العهد.... وغيرها) انما كانت تجسيدا لتوازنات دولية ماضية، أملاها المسلمون بحسب معايير القوى المادية والفكرية والروحية المتاحة لديهم. ومن ثم فهي الآن قد غدت ثنائيات متجاوزة لامحالة، وهي تتطلب اجتهادات في موضوع الحريات الدينية والسياسية. وفي باب (حوارات) ايضا نشرت المجلة مناقشة حول (الدين بين قراءتي التسامح والعنف)جرت بين الشيخ محمد مجتهد شبستري والشيخ محسن كديور، أوضح فيها الشيخ شبستري بأن تعميم قيم التسامح والعيش المشترك تستند الى الاعتراف بحقوق الانسان و تعددية فهم الحقيقة، أي ان الايمان بأن الانسان يمكنه تبني فلسفات مختلفة، ويقدم تفاسير متباينة للعالم والانسان والايمان. اما لو اعتقد فريق من الناس بوجود حقائق أبدية، لم يطلع عليها الا عدد من الناس، وعلى سائر أفراد المجتمع ان يكيفوا حياتهم معها، ولو بالاجبار والالزام المباشر وغير المباشر، فان هؤلاء لايمكنهم الايمان بحقوق اساسية للانسان يدونون في ضوئها دستورا. وفي الباب نفسه حاور معتز الخطيب الباحث الفرنسي فرانسوا بورجات المختص بدراسة الحركات الاسلامية، حول امكانية الاحتفاظ بالخصوصيات مع تبني القيم الانسانية العامة، لان الخصوصيات لاتعني ان هناك تناقضا جوهريا بين القيم. ونشرت المجلة الندوة التي عقدتها حول (التسامح والاعتراف بالآخر) في بيروت في 7/8/2003 وشارك فيها : السيد محمد حسن الأمين، والدكتور اديب صعب، والاستاذ محمد ابو القاسم حاج حمد، والسيد هاني فحص. وتذهب (قضايا اسلامية معاصرة) الى ان اهتمامها بقضية التسامح انما جاء استجابة لتحديات راهنة يشهدها العراق، وهو البلد الذي تنتمي اليه هذه المطبوعة، فان العراق يتكون من فسيفساء عرقية ودينية ومذهبية استطاعت ان تتوحد وتتعايش مئات السنين بوئام وسلام، غير ان محاولات ليست بريئة تسعى لتفجير المخزون التاريخي للانقسام والفرقة، واستدعاء النزعات التعصبية من الماضي السحيق، من أجل تفتيت وحدة الجماعة في هذا البلد. وترى المجلة ان اشاعة مفهوم التسامح، والعمل على ترسيخ روح التعايش، هو السبيل الوحيد لتحريرنا من الكوارث التي تعصف بعالمنا. وافتتحت الدورية باب (دراسات) بدراسة للدكتور محمد سبيلا رئيس الجمعية الفلسفية المغربية، حول (عوائق التفاهم بين الثقافات) أوضح فيها بأن الثقافات على الرغم من تفاوتها على خط التطور التاريخي، فانها مدعوة في عصر التواصل الى الحوار، والى استكمال ادراك الذات في مرآة الآخر، والى ممارسة نقد ذاتي يهدف الى التخلص من النرجسية والاستيهامات الذاتية، ومن عقدة المركزية والتفوق، ومن كل الاحكام المسبقة تجاه الآخر، وتغليب حوار(المعنى) على حوار(البندقية). وجاء بحث (اشكالية التسامح) للشيخ محمد مجتهد شبستري ليحذرنا من تحريف مفهوم التسامح، واختزال معناه مثلما، يفعل البعض حين يزعمون بأن التسامح المنسجم مع ميراثنا هو الذي نقبله، وهو يختلف عن التسامح بمفهومه الغربي. وهكذا يرفض هؤلاء مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان بهذه الذريعة. من دون ان يعوا المغالطة في مثل هذا الادعاء، لأن من لايوافق على الحرية، سيوافق على ما ما يكون ضادها، وهو اللاحرية، وهكذا من يرفض الديمقراطية فانه يقبل بالاستبداد، ومن يستنكر الميثاق العالمي لحقوق الانسان، ولايرضى بالمساواة التامة بين بني البشر، فانه يقر التمايز بينهم على اساس الدم اواللون او الجنس او المعتقد او غير ذلك. ويكتب الباحث العراقي ماجد الغرباوي دراسة موسعة يتناول فيها دلالات (التسامح ومنابع اللاتسامح) فيؤكد على ان التسامح هو الاعتراف بالآخر والعيش المشترك معه على اساس حرية المعتقد وحرية التعبير، لاتكرما ولامنة، وانما هو حق، باعتباره تعدد الطرق الى الحقيقة، وان الحقيقة موجودة (بمعنى محتملة) لدى جميع الاتجاهات الدينية والعقيدية، على اساس وحدة الحقيقة وتعدد التجارب الدينية. بعد ذلك يتحدث عن (منابع اللاتسامح) ويخلص الى انها تتمثل اولا في منطق العنف، وكيف يتحول العنف الى قيمة عظمى في حياة الشعوب البدائية، ويغدو مقياسا للرجولة والمكانة الاجتماعية، ومنهجا في تفسير التاريخ وقراءة الواقع. وثانيا في الولاء القبلي، وتقديم الولاء على الكفاءة. وثالثا في سلطة قيم الاستبداد والكراهية، فان التسامح نسق قيمي واخلاقي، لاينسجم مع منظومة قيم الاستبداد والكراهية. ورابعا في الاستبداد السياسي، الذي هو اشد خصوم التسامح، ذلك ان الاعتراف بالآخر هو جوهر التسامح الديني والسياسي والاجتماعي، بينمايعني نفي الآخر وتهميشه جوهر الاستبداد السياسي. وخامسا التطرف الديني، فان التطرف يجسد قراءة متوحشة للدين، تطمس معاني الرحمة والاحسان، وتجتزئ النصوص، وتؤكد على رفض الآخر واستئصاله. اما الباحث المغربي ادريس هاني فانه يدرس كيفية صياغة الوعي الاسلامي المعاصر تجاه الآخر، واثر كتابات سيد قطب ومحمد قطب والمودودي والندوي وغيرهم، في تشكيل موقفنا حيال الحضارة الغربية، ومكاسب العلوم الانسانية الحديثة، التي يصفها محمد قطب بجاهلية القرن العشرين. وتصنف لدى هؤلاء فتوحات علم الاقتصاد وعلم النفس والاجتماع باعتبارها نتاج مؤامرة يهودية صهيونية، ذلك ان مؤسسيها هم اليهود الثلاثة (ماركس، فرويد، دوركايم). ويتعدى الموقف علم الاجتماع الدوركايمي والتحليل النفسي الفرويدي والاقتصاد السياسي الماركسي، لتصبح كل العلوم الانسانية مدانة، لا بل واحيانا تتحول العلوم البحتة الى مؤامرة، فالعلم الغربي هو في نهاية المطاف علم مؤامرة، حسبما يذهب الاخوان سيد ومحمد قطب والمودودي والندوي. ويعالج الدكتور السيد حسين نصر المبادئ الميتافيزيقية للتسامح، والتي يجدها في الحقائق المتعالية المشتركة بين الاديان. وتستند مرجعية نصر الى التصوف والعرفان، الذي يلغي المسافة بين جلال الدين الرومي وراماكريشنا ويوحد بينهما في (حق الحق) المتعالي على كافة الصور، ويتجلى في الوقت ذاته في صور قدسية شتى، تتمتع لدى الحضارات المختلفة بمكانة مركزية. وان بمقدورنا في تلك الحال اللجوء الى الميتافيزيقيا محاولين الوصول الى مصدر التسامح في ضرب من الثنويات يختص بمقام التجلي. اما الباحث السعودي محمد محفوظ فيتناول معنى التسامح وآفاق السلم الاهلي، ويخلص الى ان التسامح لايعني بأي حال من الاحوال التنازل عن المعتقد، اوالخضوع لمبدأ المساومة والتنازل، وانما يعني القبول بالآخر والتعامل معه على اسس العدالة والمساواة، بصرف النظر عن افكاره وقناعاته الاخرى. وان المنظومة الاخلاقية التي شرعها الاسلام، من قبيل الرفق والايثار والعفو والاحسان والمداراة والقول الحسن والالفة والامانة وحث المؤمنين به على الالتزام بها وجعلها سمة شخصيتهم الخاصة والعامة، كلها تقتضي الالتزام بمضمون مبدأ التسامح. وقد درس الباحث السوري معتز الخطيب العلاقة بين مفهومي الجهاد والعنف، والالتباس المفهومي والاصطلاحي بينهما، وشدد على انه لايمكن النظر الى مفهوم العنف باشكاله، والتي منها (الارهاب) نظرة بسيطة ساذجة، ذلك ان العنف من الظواهر المركبة، ذات الابعاد المتعددة والمتشابكة، ولايمكن الحديث فيه عن مكون احادي، سواء على مستوى المكونات المفهومية ام على مستوى اسباب نشأته وبواعثه، وحين تضاف الى ذلك كله مشكلات التوظيف السياسي يزداد الامر تعقيدا وتصبح معالجته اكثر اعضالا. وكعادتها في كل عدد تفرد (قضايا اسلامية معاصرة) بابا بعنوان (نقد العدد الماضي) يقدم فيه احد كتاب المجلة مراجعة نقدية لاحد ملفاتها، ويحاكم المساهمات المنشورة في الملف. وفي هذا العدد نشرت الدورية مساهمة للكاتب العراقي سرمد الطائي، اشتملت على مراجعة تقويمية للعدد 23 الخاص باشكاليات التحيز والتمركز في المعرفة، اورد فيها مجموعة ملاحظات نقدية على اجابات الدكتور عبد الوهاب المسيري عن اسئلة الدكتور سعيد شبار، واشار الى ان حديث المسيري الذي يلح على تحيزات المعرفة وسيادة منطق الاشياء على الانسان في العلوم الغربية، يتضمن هذا الحديث مسكوتا عنه، وهو قبوله بمنطق الاشياء حتى لو استلب الانسان وخاتله، شريطة ان يجري ذلك التشيؤ في غرف لاهوت مغلقة، وضمن خطاب يتحدث عن السماء بمجازات تحجب هموم الارض. وان مفارقة قراءة النص في اعمال الاسلمة تكمن في الخلط بين التربوي والتفسيري والتعاليم والفرضيات والواجبات الاخلاقية والنظريات الاجتماعية، ويقودنا التحليل الابستمولوجي الذي يقوم به سرمد الطائي لمحاولات (تديين المعرفة) حسب تعبيره الى فضح مأزق التأصيل الايديولوجي ولعبة الانظمة الثيولوجية، في قراءته المسهبة لسائر محتويات الملف. وتظل مجلة (قضايا اسلامية معاصرة)، كما عودتنا في ملفاتها السابقة حافلة بالرؤى والاجتهادات الجريئة والجادة، والتي طالما توخت الحراثة في الارض البكر، والتوغل في الموضوعات اللامفكر فيها، ودراسة وتحليل الاشكاليات الملحة والملتبسة، مما يرسخ راهنية هذه المطبوعة ومعاصرتها.
هذا المحتوى مخفي
جميع خدماتنا مجانية .. يرجى دعمنا والمشاركة علي إحدى مواقع التواصل الإجتماعي
أو انتظر 10 ثانية لظهور المحتوى